أوّل ما حدث الشرك في قوم نوح، حين غلوا في الصالحين واستكبروا عن دعوة نبيّهم: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}3.
قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه4 عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما -: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجالسون فيها أنصابا وسمّوها بأسمائهم. ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسى العلم عبدت
قال الإمام ابن القيّم1 - رحمه الله -: "قال غير واحد من السّلف: لمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمّ صوّروا تماثيلهم، ثمّ طال عليهم الأمد فعبدوهم". ثمّ قال2 رحمه الله: "وقد تلاعب الشّيطان بالمشركين في عبادة الأصنام بكل قومٍ على قدر عقولهم، فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوّروا تلك الأصنام على صورهم، كما في قوم نوح، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين. وأمّا خواصّهم فاتخذوا الأصنام على صور الكواكب المؤثرة في العالم بزعمهم، وجعلوا لهم بيوتا وسدنةً وحجّابا وقربانا. ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا.
وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قوم إبراهيم - عليه السلام ، الذين ناظرهم في بطلان الشّرك وكسر حجّتهم بعلمه وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه.
وطائفةً أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنّه يستحق العبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي.
وطائفةً تعبد النّار وهم المجوس، فيبنون لها بيوتا كثيرةً، ويتخذون لها الوقوف والسّدنة والحجّاب، فلا يدعونها تخمد لحظةً واحدةً.
وطائفةً تعبد الماء، تزعم أنّ الماء أصل كلّ شيء وبه كلّ ولادةٍ ونمو ونشوء وطهارة وعمارة.
وطائفةً تعبد الحيوانات: فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت البقر، وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات، وطائفة تعبد الجنّ، وطائفة تعبد الشجر، وطائفة تعبد الملائكة" انتهى كلام ابن القيّم - رحمه الله -.
ومن الأثر الذي مرّ من رواية البخاري عن ابن عبّاس في بيان سبب حدوث الشرك في قوم نوح..
ندرك أولاً: خطورة تعليق الصور على الجدران ونصب التماثيل في المجالس والميادين، وأنّ ذلك يؤول بالنّاس إلى الشرك، بحيث يتطور تعظيم تلك الصور والتماثيل إلى عبادتها واعتقاد جلب الخير ودفع الشّر منها، كما حدث لقوم نوح.
ندرك ثانيا: مدى حرص الشّيطان على إضلال بني آدم ومكره بهم، وأنّه قد يأتيهم من ناحية استغلال العواطف ودعوى الترغيب في الخير، فإنه لمّا رأى في قوم نوح ولوعهم في الصالحين ومحبّتهم لهم دعاهم إلى الغلو في هذه المحبّة، بحيث أمرهم بنصب صورهم على المجالس، وهدفه من هذا الخروج بهم عن جادة الصّواب.
ندرك ثالثا: أنّ الشيطان لا يقصر نظره على إغواء الأجيال الحاضرة، بل يمتد إلى الأجيال المستقبلة، فإنّه لمّا لم يتمكّن من إيقاع الشرك في الجيل الحاضر من قوم نوح طمع في الجيل المقبل ونصب له الأحبولة.
ندرك رابعا: أنّه لا يجوز التساهل في وسائل الشّر، بل يجب قطعها وسد بابها.
ندرك خامسا: فضل العلماء العاملين، وأنّ وجودهم في النّاس خير، وفقدانهم شر، فإنّ الشيطان لم يتمكن من إغواء القوم حتى فقدوا .