و يمثلان بواقي الحالات الماضوية الناقصة في معرفتها الجزئية ، أو العناصر الدقيقة و تختلف في معاييرها و مقاييسها بحيث إذا تم قياسها بمقاييس معاصرة يحدث إساءة تقدير الأحداث القديمة و تشويه تفسيرها ، لذا فإنها تمثل خصوصية تراثية لا تمثل معايير الحضارة و الخطأ كل الخطأ إذا تم قياسها بمقاييس الحاضر . ( عمر، 1997 م، من ص 246 ــ ص 253)
كما يميز شوتز بين المنظور الطبيعي لعضو الجماعة الاجتماعية و المنظور الظاهراتي للملاحظ الخارجي ، و يصف مصطلح الطبيعي المدخل الفطري والبديهي الذي يسلم به أعضاء جماعة اجتماعية معينة ، و ينظر هؤلاء الأعضاء إلى أسلوب حياتهم على أنه عادي و هم بصفة عامة غير واعين بالمدى الذي يعكس به هذا الأسلوب خبراتهم الذاتية فقط، و على النقيض من ذلك يسعى الملاحظ الخارجي (الذي يتبنى منظارً ظاهراتياً) إلى وصف أسلوب حياة جماعة ما، و مع هذا فهو يقوم بهذه المهمة من زاوية الفاعلين لا من زاوية منظور تفسيري خارجي.(عبد الجواد، 2009م،ص187 ــ 188)
و كمثال على المنظور الطبيعي لو استخدمناه لتفسير حياة أفراد مجتمع قبيلة قريش حين قالوا: "هذا ما وجدنا عليه آبائنا" فهم ينظرون إلى أسلوب حياتهم من عبادة للأصنام و شرب للخمور و وأد للبنات بأنه عادي، غير مدركين أن هذا الوضع يعكس خبراتهم الذاتية و ما تعلموه من خلال التنشئة الاجتماعية ، فيما يركز المنظور الظاهراتي على وصف حياة هذه الجماعة حيث يتم استخدام الملاحظة كأداة جمع للبيانات من خلال استخدام المنهج الكيفي ، فيتم وصف أسلوب حياة هذه الجماعة كما تبدو و من زاوية الفاعلين أنفسهم لا من زوايا بنائية أو صراعية قد لا تعكس الواقع المعاش ، حيث يتم التركيز على ما يرويه الناس حول عبادة الأصنام أو وأد البنات، و من ثم تحليل هذه البيانات لتقديم تفسير ملائم للواقع الاجتماعي.
تقييم لإسهامات الفريد شوتز
لا بد من الإشارة إلى أن شوتز دخل مباشرة في مفهوم " التخلل الذاتي " بين المتفاعلين بيد أنه لم يقل لنا كيف حصل هذا التخلل بينهما ؟
هل من خلال تقارب آراؤهما أو مشاعرهما أو مصالحهما أو أفكارهما أو انتماءاتها الاجتماعية ؟
لأن تقبل الفواعل ذاتيا ً كلا ً منهما للآخر لا يحصل اعتباطا ً أو فجأة بمجرد لقائهما و لم يعرض لنا مساحة أو مدة للفترة الزمنية التي تستغرق الفواعل لوصولهما حالة التقبل الذاتي و الذهاب إلى مرحلة تبادل ذواتهما ، فهي حلقة مفقودة في رؤية شوتز مما جعلت هناك ثغرة في تركيبة نظريته .
و في إطار النمذجة أوضح شوتز أن الفاعل يختزل ما يحس به و يراه من سلوك و يسمح من حديث عن الفاعل المتفاعل معه من خلال معاييره الذاتية و الاجتماعية فيلصق به سمة أو صفة ترمز إلى نوع سلوكه أو تفكيره أو شكله ، و لكن لا بد من القول أن الفاعل إذا مر بظروف سيئة أو قاسية نجده يلون نماذج الناس السلوكية بألوان قاتمة و قاسية و متشائمة ، و إذا عاش في ظل ظروف سهلة وسعيدة و قليلة المثالب ، فإنه يلون نماذج الناس السلوكية بألوان وردية و متفائلة و طيبة .
مثل هذا التوصيف الدقيق لم يذكره شوتز في نظريته بل مر ّ عليه مرور الكرام ، لا غرو من التساؤل في هذا المقام : أين دور العقل في تحكيمه و موازنة الواقع المرئي و المدرك و خبراته السابقة ؟
لماذا افترض شوتز أن الفاعل دائما ً ينجر انجرارا ً نحو خبراته الماضوية تلقائيا ً و يرضخ لنماذج صاغها هو في ظروف ولت و بادت لا تعكس ظروفه الحالية ، فضلا ً عن كون سلوكيات الناس قابلة للتبدل من فترة إلى أخرى ، و بالذات الإنسان العصري الذي يفاضل عقله و منطقه على عاطفته ناهيك عن تبدل معايير الناس عبر الزمن على ألا ننسى أن الفاعل ذاته يطور و يبدل و يعدل رؤاه و أحكامه و نمط تفكيره حسب التطورات التي يرتقي إليها و الأهداف التي يرنو منها .
يضيف معن خليل عمر قائلا ً : أقول أن شوتز اقتصرت نظريته على نوع واحد من الفواعل و ليس معظم أنواع الفواعل .
أي اهتم بالفاعل المحدود الأفق و صاحب الذكاء السطحي أو الكسول ذهنيا ً و ترك الطموح و اللماح و الحيوي و المتوقد الذكاء .
كما أن الخبرة الذاتية لا تكون تراكمية دائما ً كما يرى شوتز بل قد تأخذ حالة التنافر ( كرد فعل ) أما إذا حصل امتداد للخبرة الذاتية ، فإن ذلك يعني عدم تنوع خبرات الفاعل بل السير في خط واحد من الخبرة ، و هذا نادرا ً ما يحدث في المجتمع المعاصر المكتنز بالتنوع و التبدل .
و يتساءل معن خليل عمر عن موقف و رؤية نظرية شوتز و أتباعه عن الفاعل دون سن الخامسة عشر ( على سبيل المثال لا الحصر ) الذي لا يمتلك نماذج خبراتية كثيرة و متنوعة ، بل محدودة بحدود عمره القصير ، و يواجه مواقف عديدة و متباينة , و هو في حالة اكتساب خبرات و يحولها إلى مخزون في ذاكرته و يستدعيها عند الحاجة ، تكون خبرته الاجتماعية هزيلة و قليلة غير ناضجة ، فما هو موقفه إذا واجهه موقف أو فاعل ليس له ذخيرة خبراتية في ذلك النوع من المواقف أو الفواعل . ( عمر ، 1997 م ، ص 260 ــ 266 )
تعليق عام على الاتجاه الفينومينولوجي :
لاشك أن هذا الاتجاه يركز على دراسة المعاني والخبرات المشتركة بين الأفراد في المجتمع بوصفها أساساً للحياة الاجتماعية وبإهمال الاختلافات والصراعات الواقعية داخل المجتمع. ويتعارض ذلك تماما مع التحليل العلمي الواقعي للمجتمع الذي يبين بالأدلة القاطعة أن العالم تمزقه الصراعات على كافة المستويات، وأن القدر المتاح من المعاني والخبرات المشتركة بين الأفراد في المجتمع الواحد أو في مجتمعات العالم أقل بكثير من الاختلافات والصراعات فهناك صراعات عديدة بين الشباب والشيوخ، النساء والرجال، الأغنياء والفقراء، الأميون والمتعلمون، أصحاب السلطة والقوة والخاضعين لهم، ودعاة الحرب، الاشتراكيون والرأسماليون، العالم الثالث والبلدان المتقدمة.
أي أن المسلمة الأساسية التي تنص عليها التحليلات الفينومينولوجية عن طبيعة الواقع الاجتماعي (الخبرات الفكرية المشتركة) لا تدعمها الأدلة الأمبيريقية بل هناك أدلة تنفيها وقد تجاهل أصحاب الاتجاه الفينومينولوجي مسألة الصراع الطبقي العنيف في مجتمعاتهم ورفضوا حتى أن يروه أو يشيروا إليه أو يفسروه على الرغم من أنَّه كان يفرض نفسه على الجميع، كما أنهم تجاهلوا الواقع الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع ودرسوا الخبرة اليومية وأسلوب التفكير كما لو كانا منفصلين عن الواقع ولا يتأثران به.
و يرى العديد من النقاد بأن الاتجاه الفينومينولوجي اتجاهاً محافظاً من الناحية الأيدولوجية. (أحمد، 1977م، ص 249ــ 251)