حتى يتسنى لنا تقييم العلاقات الفينيقية المغاربية من خلال ما كتبه المؤرخون الكلاسيكيون الإغريق والرومان، و ما أسفرت عليه نتائج التنقيبات الأثرية و كذا نصوص النقوش الكتابية، لابد أن نركز على علاقة قرطاجة و هي المدينة الهامة التي آلت إليها السيادة في الحوض الغربي للبحر المتوسط بعد تأسيسها و تطورها، ذلك لأن المستوطنات التي سبقتها كانت قد أسست من قبل تجار من بسطاء عامة الشعب كانوا لا يفكرون في الاستقرار في الحوض الغربي للبحر المتوسط بعد انتهاء مهمتهم التجارية المتمثلة في جلب المواد المصنعة و مبادلتها عن طريق المقايضة. و مقابل ذلك الحصول على المواد الخام، لاسيما معادن الحديد و الرصاص و القصدير من شبه جزيرة إيبيريا و كذا المواد الأولية الأخرى التي كانوا يحصلون عليها من المغرب القديم مثل الملح و ريش النعام و جلود الحيوانات و العاج. وكانت الوساطة التجارية بين حوضي البحر المتوسط هي مهمتهم الوحيدة.
أما مدينة قرطاجة فقد أسستها أميرة – تدعى عليسا – تنتمي إلى أسرة ملكية بمدينة صور، وقد جاءت بحاشيتها منذ الوهلة الأولى بهدف الاستقرار.
ولا يستبعد أن يكون المكان الذي أسست فيه مدينة قرطاجة والمتمثل في خليج شمال تونس قد تعرف عليه الفينيقيون الأوائل و تبينوا مكانته الاستراتيجية في المنطقة، و لم يكن تأسيسها هنالك اعتباطيا كما يعتقد البعض. و مع ذلك، فإن الباحث يقف عاجزا أمام بداية و نوعية العلاقات الفينيقية المغاربية الباكرة في غرب المتوسط، فيما عدا بعض الإشارات التاريخية البسيطة التي يغلب عليها الأسلوب الأسطوري في كثير من الأحيان.
و هكذا يمكن أن نقسم العلاقات القرطاجية – الليبية إلى مرحلتين أساسيتين ، أولهما تبدأ منذ نشأة قرطاجة و تستمر حتى القرن الخامس ق.م، و ثانيهما تمتد من هذا التاريخ و حتى تهديم مدينة قرطاجة سنة 146 ق.م .
أولا : العلاقات التي تمتد منذ البدء و حتى القرن الخامس قبل الميلاد
لعل أول إشارة إلى تلك العلاقات تكمن فيما ذكره المؤرخ الإغريقي تيمي (Timée) و التي نقلها عنه فيما بعد جوستانJustin) ( في مختصر تروق بومبي (Trogue Pompée) . و يستفاد من تلك الكتابات أو ما عرفت بأسطورة عليسا (Elissa)أن المغاربة القدماء كانوا في بداية الأمر قد رحبوا بالتجار الفينيقيين الذين وفدوا إلى بلادهم و ذلك نظرا لأهدافهم السلمية التي كانت لا تتعدى إنشاء مراكز تجارية تتم فيها المبادلات.
ونظرا لهوية الفينيقيين السلمية، فقد قبلوا دفع ضريبة مالية سنوية للمغاربة القدماء عربونا للصداقة وإعطائهم الأمان وريعا للمكان الذي أسست فيه المدينة. وقد دام ذلك الوفاق أوالاتفاق إن صح هذا التعبير بداية من تأسيس قرطاجة وحتى القرن الخامس ق.م تقريبا و هي الفترة التي تنقلب فيها قرطاجة إلى دولة مهيمنة على الحوض الغربي للبحر المتوسط.
وبتقادم الزمن آلت بعض المراكز الفينيقية إلى مستوطنات و مدن قارة لها حرية السيادة في نطاق المنظومة العامة القرطاجية. و قد تجمع حولها المغاربة لتسويق بضائعهم المحلية المتمثلة في جلود الحيوانات و ريش النعام و الذهب وبعض المعادن الأخرى غير المصنعة وبالمقابل كانوا يبتاعون من التجار الفينيقيين كل أنواع الزينة و العطور و الأواني المصنعة الزجاجية والمعدنية وكذا الخزفية و كل ذلك كان يتم عن طريق المقايضة. و باستقرار الفينيقيين والمغاربة في أماكن قارة بدأ التفكير في استغلال المناطق الصالحة للزراعة والقريبة من أماكن الاستقرار. وهكذا استغلت كامل السهول الموجودة في رأس بونة شمال تونس وسهول شمال غرب تونس و الشرق الجزائري ، ثم سهول المغرب الأقصى الواقعة حول مستوطنة ليكسوس (Lixus) .
أما الجانب الثاني الذي يبرز لنا ذلك الامتزاج فيتمثل في الجانب الديني، لاسيما في عبادة كل من المغاربة و القرطاجيين للإلهين بعل حمون و تانيت بني بعل، و تعتبر هذه الأخيرة عند بعض المؤرخين إلهة مغربية تقابل الإلهة عشتار السامية في شرق المتوسط. كذلك يستدل من وجود رسوم الكبش الذي يحمل على رأسه دائرة تشير إلى قرص الشمس و التي وجدت في الرسوم الصخرية و كذا رسوم الخراف و الثيران التي وجدت في بعض أنصاب قرطاجة وسيرتا و حدرومات (سوسة) على مدى استمرار العبادة المغربية القديمة العائدة إلى فترة ما قبل التاريخ و تعايشها مع العبادة السامية و هي ظاهرة تدل على الامتزاج الديني بين القرطاجيين و المغاربة القدماء. و لعل من بين مظاهر الامتزاج الأخرى الفينيقية المغربية نشير إلى مظاهر الدفن و نوعية المقابر و الهدايا الجنائزية التي وجدت بالقبور الحجرية كالحوانيت والدولمن التي وجدت معظمها في مجال التأثير القرطاجي البوني، و العنصر الهام الذي يساعدنا على معرفة ذلك الامتزاج هو وجود الكسر و الأواني الفخارية المغربية-البونية منتشرة في تلك المواقع الأثرية لاسيما في كل من جيجل (ايجيلجلي Igilgili ( و تيبازة بالجزائر وليكسوس بالمغرب الأقصى .
و قد استفاد المغاربة من الفينيقيين في صناعة الخزف، سواء باستعمال دولاب الخزاف أو في تطور الرسوم الهندسية التي تبدو على ظهر الآنية الفخارية. علما وأنه كان يغلب على رسوم الآنية الفخارية المغاربية قبل ذلك محاكاة الطبيعة، ثم تطورت بعد ذلك، فأصبحت بفضل القادمين الجدد تتخذ خطوطا و أشكالا هندسية وفقا لما كان سائدا في فخاريات شرقي المتوسط وحتى شكلها و مظهرها قد تحسنا. وبذلك أصبحت الأواني المغربية الفخارية تضاهي تلك الأجنبية المعاصرة لها و الموجودة في كل من بلاد الإغريق و شرقي المتوسط .
وعلى ضوء الملاحظات السابقة يتبين لنا بأن العلاقات الفينيقية المغاربية كانت علاقات سلمية اقتصادية دينية استفاد منها المغاربة في الخروج من عزلتهم التي كانوا يعانونها في المغرب منذ فترة ما قبل التاريخ. كذلك عرف المغاربة بفضل احتكاكهم بالفينيقيين نظام الاستقرار و تأسيس القرى والمدن وزراعة بعض الأشجار مثل الكروم و التين و الرمان و تلقيح أشجار الزيتون البري التي كانت موجودة ببلادهم.
هذا إلى جانب أخذهم حروف الكتابة البونية التي كانت سببا في دخولهم إلى الفترة التاريخية وكذا النظام السياسي المتمثل في نظام السوفيت ( Sufféte ) أي القضاة الحاكمين.
و قد استمرت علاقة سياسة المصالح المتبادلة خلال القرون الأولى من تأسيس مدينة قرطاجة، غير أنه في بداية القرن السادس قبل الميلاد و أمام الزحف الإغريقي نحو الحوض الغربي للبحر المتوسط ومنافستهم للقرطاجيين، عملت قرطاجة على تجنيد المرتزقة من أبناء المناطق التي كانت تتعامل معها، و لا غرو في ذلك أن يكون ضمن الجيش المرتزق أبناء المغاربة الذين كانت بلادهم تمتد على كامل شواطئ البحر المتوسط الجنوبية.
وقد أخلص المغاربة في بداية الأمر في تعاملهم مع القرطاجيين و وقوفهم إلى جانبهم في كل المعارك التي خاضوها ضد الإغريق سواء أكان ذلك في كورسيكا (معركة ألاليا –Alalia ) سنة 535 ق.م و ذلك ضمن الاتحاد الإتروسكي القرطاجي، و حتى في صقلية نفسها. كما وقفوا معهم ضد الزحف الإغريقي غرب برقة (Cyréne ) بليبيا.
و لم تبدأ العلاقات القرطاجية المغربية في التدهور إلا منذ القرن الخامس ق.م و كان لذلك التدهور أسبابه الخاصة التي سنتطرق إليها.