العلاقات الدولية International relations (IR)
يطلق هذا المصطلح على جميع التفاعلات بين الفاعلين من الدول عبر حدود الدول. ويمكن مقارنة المصطلح مباشرة مع السياسة الدولية وإن كان أوسع نطاقاً منها. بل إن تلك الأخيرة تعتبر واحداً، وبالتأكيد واحداً من أهم الميادين الفرعية للعلاقات الدولية. فالقانون الدولي جزء من العلاقات الدولية لكنه ليس العلاقات الدولية. ومن المؤكد أن القانون بشكله المعتاد، ينشأ من جراء التفاعلات بين الأطراف الفاعلة من الدول. وكذلك تعد العلاقات الاقتصادية الدولية جزءاً من العلاقات الدولية لكنها ليست العلاقات الدولية. وهذا لا يعني أن الحسابات السياسية لن تتطفل على هذه المجالات، بل إنما يمكن فصلها لأغراض التحليل.
فالعلاقات الدولية إذاً مجال غير متجانس للدراسة ويضم عدداً من فروع المعرفة. وليست له منهجية موحدة، لأنه بالإضافة إلى الأمثلة الثلاثة المذكورة أعلاه، فإن الاقتصاد الدولي علم اجتماعي تجريبي (empirical) مبني على الملاحظة والاختبار، والقانون الدولي معياري أكثر من معظم العلوم الاجتماعية في حين أن السياسة الدولية اصطفائية، تقترض من تقاليد عدة وهي مقسّمة في أذهان الكثيرين إلى مجموعة جامحة نوعاً ما من الأنشطة. وتجدر ملاحظة أن ما أُدرِج أعلاه هو على سبيل المثال لا الحصر، يتضح أنه حذف منه تاريخ الدبلوماسية الذي له، بدوره، منهجيته الخاصة.
ومع أن طابع العلاقات الدولية مشرذم ويضم عدداً من فروع المعرفة، فإن معظم الطلاب الذين يدرسون العلاقات الدولية ينظرون إليها بوصفها قسماً فرعياً من علم السياسة، من وجهة نظر عامة. ومع أن الجمعيات المهنية الرئيسية في العالم الأنجلو – أمريكي تجنبت على وجه التحديد والتصميم استخدام مصطلح "العلاقات الدولية" بغية المحافظة على طابعه المتصف بأنه يضم عدداً من فروع المعرفة (رابطة الدراسات الدولية والرابطة البريطانية للدراسات الدولية) فإن أكثرية الأعضاء يأتون في الواقع من دراسة السياسة. بل إن مجال العلاقات الدولية لا يزال يشار إليه كثيراً بعبارة "السياسة الدولية" رغم الاختلافات المنوه بها أعلاه. ويمكن ملاحظة غياب الدقة في المصطلحات في التسميات ذات الصلة مثل "السياسة العالمية"، "الشؤون الخارجية"، "الشؤون الدولية" ومؤخراً "الدراسات الدولية" و"السياسة العولمية". ويعد تحليل السياسة الخارجية والدراسات الأمنية والاقتصاد السياسي الدولي والنظرية المعيارية هذه كلها تعد الميادين الفرعية الأكثر حيوية وهذه أيضاً يسيطر عليها علماء السياسة.
التاريخ والمقاربات:
لقد بدأت العلاقات الدولية كميدان مستقل للبحث الأكاديمي المتميز عن القانون الدولي والنظرية السياسية والتاريخ الدبلوماسي، بدأت بالفعل حين تأسس أول كرسي لها في جامعة ويلز، ابريستويث في 1919. وقد أطلق اسم المثالية على المنظور النظري العام الأول وكان يتميز بالإيمان بالتقدم؛ وبأنه يمكن تحويل النظام الدولي إلى نظام عالمي يتصف بشكل أساسي بأنه أكثر سلاماً وعدلاً.
لذا فإن العلاقات الدولية كانت منذ البداية ذات توجه نحو السياسة. وبعد ذلك تعرض الموضوع إلى موجات متعاقبة من النشاط النظري الذي استلهمت منه "مناظرات كبيرة" ضمن هذا الفرع من فروع المعرفة. وتتمثل هذه الموجات وفق التسلسل التاريخي (مع مراعاة أن هذه "المدارس" ليست حصرية وأنها متداخلة) بما يلي: الواقعية، السلوكية، الواقعية الجديدة، الليبرالية الجديدة، نظرية الأنظمة العالمية، النظرية النقدية وما بعد الحداثة. وكثيراً ما تضمنت هذه التغييرات في المنظور منازعات مريرة حول المنهجية والابيستمولوجيا (نظرية المعرفة) والاونتولوجيا (علم الوجود). على أنه يوجد الآن اتفاق عام ضمن العلاقات الدولية على أنه بالنظر لنطاق وتعقيد الموضوع، فقد يكون التنوع الكثير للمقاربات النظرية ميزة وليس عائقاً. وقد تمحورت معظم هذه الخلافات النموذجية على عمل محللين في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا (يشار إليها، أحياناً، بشكل غير دقيق بوصفها "التقليد" الانجلو – أمريكي) وكانت تميل إلى التركيز على قضايا القوى العظمى/ القوى الأعظم. وقد تجاوز طلاب العلاقات الدولية، في "العالم الثالث" أو "الجنوب"، على العموم، هذه المناظرات، ولا غرابة أنهم ركزوا على مشاكل سياسية معينة لدى دولهم أو أقاليمهم. وقد كان عادة للمنطلقات النظرية الإجمالية، إذا كانت متطورة على الإطلاق، أصولها في النظريات الماركسية/ اللينينية عن الامبريالية وفي نظرية التبعية والبنيوية. وبانتهاء الحرب الباردة، أصبحت العلاقات الدولية مثل موضوعها في حالة من التغير المتواصل. ويتمثل المنطلقان السائدان في الواقعية الجديدة والليبرالية الجديدة ولكن الحالة العامة من عدم التيقن بشان استمرار صلاحية الدولة لتكون الفاعل الأساسي في السياسة العالمية قد أدى إلى الشك في قدرة العلاقات الدولية، بشكلها الراهن، على البقاء كمجال مستقل للدراسة الأكاديمية.
السياسة الدولية International Politics
يستعمل هذا المصطلح لتحديد تلك التفاعلات بين الأطراف الفاعلة من الدول عبر حدود الدول التي لها محتوى وطابع سياسي محدد. هذه التفاعلات تتولى معالجتها الحكومات مباشرة أو ممثلوها المفوضون والمقبولون. ويستخدم مصطلح "دولي" (international) بدلاً من "بين الدول") لأن لذلك الأخير معانيَ مشوشة تختلط بالفيدرالية والاتحادات الفيدرالية. ويمكن مقارنة المصطلح فوراً مع العلاقات الدولية. ومن المألوف بصفة عامة اعتبار السياسة الدولية بصفتها صنفاً أو فئة من العلاقات الدولية. كما أن العلاقة بين السياسة الدولية والسياسة الخارجية وثيقة أيضاً. فإذا كانت الأولى معنية بالتفاعلات، فإن الأخيرة معنية بالأفعال وردود الأفعال. وتنشأ العلاقات السياسية الدولية، من منظور السياسة الخارجية، من قبل الدول التي تمارس رسم السياسة.
يستفاد من مفهوم السياسة الدولية أن الدول هي الأطراف الفاعلة السائدة في الميدان. وإذا تم تحديد أطراف فاعلة أخرى فعندئذ يجب أن يشك جدياً بقدرتهم على "التصرف" بشكل مستقل. وفي اللحظة التي لا يعود الافتراض المتعلق بأولوية الدول ممكناً، فعندئذ يبدأ مصطلح "الدولي" بأن يظهر قاصراً بشكل جدي وعندئذ يتعين استخدام نعت آخر – مثل "العالمي" (world) أو "العولمي" (global) – لنقرنه بالسياسة بدلاً من نعت "الدولي". ولقد حدث تشويش كبير في العقود الأخيرة, لأنه لم يتم التقيد بهذا الشرط المتعلق بالمصطلحات. وقد دأب المؤلفون على استخدام "السياسة الدولية" عندما يكون ما يقصدونه هو السياسة العالمية.
كما أن المناقشات المتعلقة بالسياسة الدولية جُعِلت أكثر صعوبة لعدم وجود تعريف متفق عليه لمعنى كلمة "politics" (السياسة). بل إن بعض الكُتاب أرادوا تعريف السياسة تعريفاً ضيقاً جداً من منطلق مصطلح "polity" (نظام الحكم/ الحكومة/ الدولة). فمن دون "polity" لا يمكن وجود سياسة. وبما أنه لا توجد حكومة (polity) دولية، فإنه لا توجد سياسة دولية. هذا، بإيجاز، محور الحجة. وثمة تعاريف أخرى للسياسة، تشدد على مركزية اعتبارات القوة، أكثر تلاؤماً مع السياسة الدولية. وهي مقبولة حدسياً أيضاً بالقدر الذي تؤكد فيه أهمية عنصر القوة في السياسة الدولية والسياسة الخارجية. وتفضل بعض تعاريف السياسة مقاربة أكثر تركيزاً على صنع القرار. ففي قول مأثور تم تعريف السياسة كما يلي: "من يحصل على ماذا ومتى ولماذا وكيف؟" فمن منطلق سلوك الدولة من المؤكد أن هذا التعريف يعيد توطيد الروابط بين السياسة الخارجية والسياسة الدولية. على أنه من الضروري في هذه الحالة الإصرار على الطابع الذي يتركز على الدولة، وإلا فإن منظمة دولية تقرر اقراض المال لدولة من الدول تصبح فاعلاً سياسياً دولياً.
النظام الدولي:
منذ انتهاء أزمة الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي أصبح الحديث عن طبيعة النظام الدولي الجديد يأخذ منحى جديداً، وعلى الرغم من عدم الرؤية وحالة الضبابية التي يمر بها النظام الدولي فقد اتفق الباحثون على أن المرحلة الجديدة ستتسم بأحادية القطبية عوضاً عما كان يتوقع له في السابق من نظام تعدد القوى، وعلى الرغم من تعدد الآراء التي طرحت إزاء مسألة الدور المرتقب للولايات المتحدة في النظام الجديد،وتباينها في بعض الأحيان، فإن صدور وثيقة وزارة الدفاع الأمريكية في 7 آذار / مارس 1992م تحت مسمى "دليل التخطيط الدفاعي" المكونة من 46صفحة ، تستخدم لإرشاد القادة العسكريين عند موازنتهم السنوية وتصوراتهم المستقبلية لدور فرقهم العسكرية، قد أسدلت الستار على أي لبس في هذا الشأن. يعرف النظام الدولي على أنه نمط التفاعلات التي تتم بين الفاعلين الدوليين في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية، والتي يمكن أن تكون صراعاً أو تعاوناً، وعرفه كينث والتز (Kenneth Waltz) بأنه مجموعة من الوحدات التي تتفاعل فيما بينها، فمن ناحية يتكون النظام من هيكل أو بنيان، ويتكون من ناحية أخرى من وحدات تتفاعل معاً، وعليه فإن النظام الدولي يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية هي1 :
1-وجود هيكل أو بنيان ينظم قواعد التفاعلات بين الفاعلين الدوليين ويراد به القانون والأعراف الدولية، مثل احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والأعراف الدبلوماسية... الخ.
2-الفاعلون الدوليون، ويقصد به الدول والمنظمات الدولية والشركات متعددة الجنسيات والأشخاص الذين يقومون بأدوار ما فوق القومية، مثل تجارة السلاح والتوسط بين الدول والقيام بمهام الطرف الثالث في بعض القضايا.
3-التفاعلات التي تتم بين الفاعلين الدوليين وتكون في جميع المجالات كما أوضحنا سابقاً.
وتكمن أهمية النظام الدولي في أن علاقات تحول القوى الساندة بين الدول ووجود نظام دولي دون أية سلطة عليا قادرة على فرض معايير السلوك وما على الدول من التزامات أوجد عالماً متغيراً[2]، كما أن تحليل السياسة الدولية يتطلب فهم تركيبة النظام الدولي وكيفية تأثير إجراءات دولة ما على غيرها من الدول، وعلى الرغم من التحولات التي شهدتها بنية النظام الدولي المعاصر الذي تعود بدايته إلى توقيع اتفاقية وستفاليا في عام 1648م التي أنهت الحروب الدينية وأدت إلى بروز الدولية القومية، فإن النظام الدولي اتسم بالطبيعة الهرمية أو بمعنى آخر وجود دولة أو أكثر على قمة الهرم السياسي ووجود أغلبية دول العالم في قاعدة الهرم مع وجود قلة من الدول تتفاوت من مكانتها بحسب إمكانياتها البشرية والمادية بين القمة والقاعدة ويعني ذلك أن مجموعة قليلة من الدول وفي بعض الأحيان دولة واحدة، تفرض رؤيتها على طبيعة التفاعلات في النظام الدولي
وقد مر النظام الدولي المعاصر منذ بروزه بعدة مراحل اتسمت كل واحدة منها بخصائص وسمات تميزها عن الآخرين ويمكن تلخيص المراحل التي مر بها النظام الدولي على النحو التالي[3]:
1-أحادي القوى:
تميزت المرحلة الأولى التي تعرف بالمرحلة التقليدية، التي امتدت حتى اتفاقية فيينا، التي نظمت العلاقات الدبلوماسية بين الدول الأعضاء في المجتمع الدولي عام 1815م بكونها أحادية القوة، وكان لكل من الدولة العثمانية والسويد وهولندا وإسبانيا وإمبراطورية النمسا والمجر وفرنسا وبريطانيا مكانة مميزة في فترة من الفترات خلال تلك المرحلة كما كانت أوربا مركز الثقل السياسي.
2-تعدد القوى:
امتدت المرحلة الثانية لتشمل الفترة ما بين توقيع اتفاقية فيينا وبين انتهاء الحرب العالمية الثانية4، وقد تميزت هذه المرحلة بوجود أكثر من قوتين رئيسيتين في قمة الهرم السياسي للنظام الدولي في آن معاً، كما اتسمت ببروز قوى جديدة من خارج أوربا والولايات المتحدة إضافة إلى القوى الأوربية، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
3-ثنائي القوى ( من الجمود إلى المرونة )
اتسمت المرحلة الثالثة التي بدأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية بخروج القوى التقليدية وتربع كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على قمة الهرم السياسي للنظام الدولي، وبذلك أصبح النظام الدولي نظاماً ثنائي القوى كما لم تعد أوربا تشكل المركز بالنسبة للعالم وقد تأرجحت العلاقات بين القوتين الرئيسيتين بين التوتر والانفراج، انعكس التوتر على سباق التسلح النووي وبروز الأحلاف العسكرية وعلى تبني سياسات الاحتواء والتطويق وسياسة الاستقطاب والتنافس على مناطق النفوذ في العالم في حين تتضح حالات الانفراج في لقاءات القمم والتوصل إلى العديد من الاتفاقيات الثنائية أو المتعددة الأطراف للحد من انتشار الأسلحة التدميرية أو التخلص من البعض منها وفي التعاون العلمي والتقني والاقتصادي والسياسي بين القوتين، وعليه فإن المرحلة الثالثة شهدت الانتقال من مرحلة الجمود التي استمرت حتى منتصف الخمسينات إلى الثنائية المرنة بعد قبول الأطراف الرئيسية في النظام الدولي بمبدأ التعايش السلمي والسماح للأطراف الأخرى، مثل دول أوربا الغربية وجمهورية الصين الشعبية وكتلة عدم الانحياز بأن تؤدي دوراً فاعلاً في النظام الدولي، وقد شهدت هذه المرحلة العديد من التطورات، أهمها تزايد عدد دول العالم الثالث وبروز فاعلين من غير الدول واتساع دور الإيديولوجيا وضعف التمييز بين الحروب الدولية والحروب الأهلية وتزايد دور الرأي العام والثورة في وسائل الاتصال والثورة العلمية والاهتمام بقضايا البيئة والدراسات الاستشرافية5.
4-المرحلة الجديدة في النظام الدولي- أحادية القطبية
دخل النظام الدولي مرحلة جديدة بعد أن شهد العالم منذ عام 1985 تطورات رئيسية عدة تمثلت في وصول ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفييتي والتطورات الداخلية والخارجية التي صاحبت فترة زعامته، والحديث عن الوحدة الأوربية إضافة إلى بروز اليابان وألمانيا كقوى اقتصادية منافسة وسعي الصين الدؤوب إلى زعامة العالم الثالث والعمل على تأكيد أهميتها كقطب ثالث في العلاقات بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، كل هذه التطورات جعلت النظام الدولي يمر بفترة مخاض اتسمت بالضبابية، وكانت المؤشرات توحي بتحول النظام الدولي من الثنائية القطبية المرنة إلى تعدد القوى، وعليه فإنه لو كان الحديث هنا قبل أزمة الخليج الثانية وقبل انهيار الاتحاد السوفييتي لكانت رؤيتنا لبينة النظام الدولي إلى تعددية القوى، أو بمعنى آخر صعود قوى عظمى جديدة إلى قمة الهرم السياسي في النظام الدولي ويقصد بالنظام متعدد الأقطاب أنه مكون من أكثر من قوتين رئيسيتين تمتلك قوة كافية لترجيح ميزان القوى بواسطة حلفائها، وفي ظل هذا النظام لن تتمكن أي من القوى فرض هيمنتها على النظام الدولي وفي الوقت ذاته فإنها جميعاً لديها الوسائل لمنع الهيمنة6 .
ولكن نتيجة لما ترتب على الأحداث التي شهدتها الساحة الدولية منذ عام 1958 بصفة عامة التي انبرت منذ بداية التسعينات بصفة خاصة متمثلة في هيمنة الولايات المتحدة على المخزون العالمي من النفط وخروج الاتحاد السوفييتي من المعادلة الدولية فقد انفردت الولايات المتحدة مرحلياً بالنظام الدولي ليصبح أحادي القوة، إذ أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القوة الوحيدة المهيمنة على النظام الدولي والسؤال الذي طرح نفسه إلى متى سيظل هذا الأمر قائماً، وهل ستبرز قوى أخرى منافسة، أم أن الولايات المتحدة نظراً لما تعانيه من مشاكل داخلية ستخرج هي الأخرى من المعادلة الدولية، فالمعروف أن الولايات المتحدة تعاني من أزمة اقتصادية حيث لم تتجاوز نسبة النمو الاقتصادي في عام 1991 ال 8% في حين بلغت نسبة التضخم في نفس العام 4.3%7 وارتفعت نسبة البطالة وتعاظم العجز في ميزان التجارة الخارجي، كما تحولت الولايات المتحدة من أكبر دولة دائنة إلى أكبر دولة مدينة، حيث تقدر ديونها الخارجية بـ 4 آلاف مليار دولار8 وهو ما يساوي ثلثي ديون العالم الثالث تقريباً، وقد ارتفع العجز في الميزانية العامة ما بين عامي 1980و 1991 من 27.8 إلى 813.1 مليار دولار تقريباً9 وتعاني كذلك من تدني مستوى التعليم العام الذي يتضح في التقرير الذي صدر في عهد الرئيس رونالد ريغان تحت عنوان "أمة في خطر" (Nation at Risk) إضافة إلى ارتفاع معدلات الجريمة حيث ارتفعت معدلاتها في 27 ولاية إضافة إلى العاصمة واشنطن ففي ولاية تكساس ارتفعت بواقع 51% وفي نيوهامشر بنسبة 52% وفي فير مونت بنسبة 71% وفي نورث داكوتا بنسبة 125% 10 وتشير التقارير إلى أن معدلات الجريمة قد ارتفعت في عام 1991 بواقع 7% عن عام 111990.
وتعكس الاضطرابات العرقية التي شهدتها المدن الأمريكية في أيار مايو 121992 حالة الانهيار في المجتمع الأمريكي ويعاني المجتمع الأمريكي كذلك من الخلل في البنية الاجتماعية وغياب العدالة الاجتماعية، والمؤشرات في هذا الصدد عديدة وسنكتفي بالإشارة إلى بعض الظواهر الاجتماعية التي تعكس السائد في المجتمع الأمريكي فمثلاً ازدادت في الآونة الأخيرة نسبة الأسر ذات الوالد الوحيد أو ما يعرف بـ single parent family حيث ارتفعت بين السود إلى 56% في حين لم تكن تتجاوز في عام 1950 الـ 17% وتبلغ معدلات الولادة خارج مؤسسة الزواج بين السود 63% في حين تصل بين البيض إلى 10%13 وعلى صعيد غياب العدالة الاجتماعية والتفرقة العنصرية فيتضح مثلاًً في مطالبة المدعوين في جو رجيا بإنزال عقوبة الإعدام في 70% من ا لدعاوى التي اتهم فيها مواطنون سود بقتل البيض أما في حالة المواطنين البيض الذين اتهموا بقتل السود فلم يطالب هؤلاء بحكم الإعدام إلا في 15% فقط من الحالات14 ، وتتجلى مظاهر التفرقة في السلوك الانتخابي للشعب الأمريكي ورفضه لزعامة شخص أسود لبلاده وكذلك في العزلة شبه المفروضة على مناطق السود والأحياء التي يغلب عليها السكان السود خاصة في الولايات الجنوبية كما تبلغ نسبة السود في سجون الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 45%15 وأصبح الشباب الأمريكي شباب "البوب" والمخدرات والطرب والجنس، و السؤال الذي يتبادر إلى الذهن من سيحكم الولايات المتحدة خلال العقود الخمسة القادمة؟ وهل يمكن لهذه النوعية من الأجيال المحافظة على مكانة الولايات المتحدة الدولية؟ بالطبع ما سيكشف عنه المستقبل على المدى المتوسط إن لم يكن القريب وفي تقديري فإن انفراد الولايات المتحدة بالنظام الدولي هو انفراد انتقالي أو مؤقت وذلك لأمرين الأول التطورات في داخل المجتمع الأمريكي، والثاني يتعلق بالتطورات الخارجية وعليه هل ستبرز اليابان أم ألمانيا أم الولايات المتحدة الأوربية أم كل منها16 .
ونظراً إلى أن المحافظة على المكانة الدولية التي اكتسبتها الولايات المتحدة تتطلب الاستمرار في صلابة الجبهة الداخلية فإن المشكلات الاجتماعية التي تعاني منها وانخفاض نموها الاقتصادي وارتفاع ديونها الخارجية سيفقدها مكانتها الدولية وقدرتها على الاستمرار في الهيمنة على النظام الدولي ويتجلى ذلك في تخفيض بند المعونات الخارجية في الميزانية الأمريكية لعام 1992 وفي نجاح بيل كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ونتيجة لهذه المشكلات برزت الأصوات المنادية بالعودة إلى العزلة ورفع شعار "أمريكا أولاً"17 الأمر الذي يعني أن الأولوية من الآن فصاعداً ستكون لعلاج المشكلات والقضايا التي يعاني منها المجتمع الأمريكي داخلياً ويرى هنري كيسنجر أن "هناك تنامياً في الرغبة بالعزلة لدى ا ليمين واليسار الأمريكيين، وموقع الولايات المتحدة في العالم يعتمد على المعونات الخارجية وبرنامج المعونات يتناقص فعلاً، أما بالنسبة إلى رغبة الأمريكيين في العزلة فهي ظاهرة موجودة وتتنامى لدى الجانبين18 الجمهوريين والديمقراطيين.
فكرة النظام الدولي الجديد:
الحديث عن النظام دولي جديد ليس وليد الساعة وإنما هو مسألة قديمة متجددة فمن ناحية كتب العديد من الباحثين المتميزين في الولايات المتحدة أمثال "والت رستو وماك جورج باندي وروكوفلر وزبيغنيو بريجينسكي وصموئيل هانغتون عن الخطة الموضوعة لطبيعة وشكل النظام الجديد ومن ناحية أخرى تحدث أدولف هتلر عن "نظامي الجديد" كما تحدث عنه بإسهاب فلاديمير لينين من قبل، ولم يعد خافياً اليوم دعم البنوك والشركات الأمريكية، أمثال مؤسسة "براون برذرز هاريمان" Brown Brothers Harriman التي تتخذ من نيويورك مقراً لها والتي كان والد السيد جورج بوش، الرئيس الأمريكي السابق أحد مالكيها، لمشاريع كل من هتلر19 ولينين وإذا كان ما قدم للينين وهتلر بمباركة الحكومة الأمريكية آنذاك فإن هذا لا يعني اتهام الحكومة أو هذه المؤسسات بميول شيوعية أو فاشية، وأن كل ما في الأمر هو تطابق وجهات النظر حول طبيعة وشكل النظام الدولي المرتقب، ويعبر ذلك
عن الطبيعة الأنانية لهذه الشركات والمؤسسات المالية واستعدادها لاستغلال أي طرف وفي أي وقت كان من خلال تقديم الدعم لكل من سيعمل على تحقيق أهدافهم، وهو إقامة نظام دولي تسيطر عليه هذه الشركات نظام يتحكم فيه من يقدم له الدعم وحجم ذلك الدعم20 .
وإذا أخفقت هذه الشركات في تحقيق أهدافها خلال العقود الماضية فبوصول أحد أصحابها إلى السلطة في الولايات المتحدة، وهو جورج بوش، تصبح الظروف أكثر ملاءمة إن لم تكن الفرصة الذهبية وربما الأخيرة لتحقيق ذلك الهدف في إبراز نظام دولي جديد يسيطر عليه أصحاب رؤوس الأموال أو بمعنى آخر يحكمه الأغنياء، وعليه فإن الدعم الذي قدمته الولايات لميخائيل غورباتشوف في أواخر القرن العشرين في عهد جورج بوش لا يختلف في أهدافه عن ذلك الذي قدمته الولايات المتحدة لمؤسس الدولة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي في العقد الثاني من القرن العشرين21.