المبحث الثاني: تطور فكرة المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي
يعد إقرار مبدأ المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي أهم تجديد أتى به تعديل قانون العقوبات أمر 04-15.
و إقرار هذا المبدأ لم يأتي من فراغ، بل سبقته مناقشات فقهية مند نهاية القرن الماضي، ووضع قضائي خضع لتطور من إنكار مطلق إلى محاولة التحقيق من غلو هذا الإنكار إلى التكريس الفعلي لهذا المبدأ، فضلا عن بعض الاستثناءات التشريعية وردت على المبدأ العام السائد و الذي مفاده أن القانون الجنائي لا يطبق إلى على الأشخاص الطبيعية و التي من خلالها تبلورت إشكالية المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية في حالة ما إذا ارتكب أحد ممثلي الشخص المعنوي جريمة باسمه و لحسابه.
فهل يمكن أن يسأل الشخص المعنوي عنها بجانب مسؤولية الشخص الطبيعي؟
الإجابة عن هذا السؤال خضعت للتطور سواء في الفقه أو التشريع وهو ما سنعالجه من خلال هذا المبحث بداية بتحديد موفق الفقه من المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي؟ كمطلب أول، و الاتجاه التشريعي المرحلي لتكريس هذه المسؤولية كمطلب ثاني.
المطلب الأول: الجدل الفقهي حول مساءلة الشخص المعنوي
لقد ظل الفقه طوال القرن الماضي يردد القول بعدم مسؤولية الشخص المعنوي جزائيا إلى أن بدأ في نهاية القرن التاسع عشر (19) على وجه التحديد ما سعى إليه الفقيه الفرنسيA.Maester الذي اعتنق صراحة الفكرة القائلة بإمكانية مسائلة الشخص المعنوي جزائيا.(1)
وعلى الرغم من ذلك و خلال القرن العشرين (20) ظل الرأي في الفقه بين مؤيد ومعارض و إن كان ميدان المعارضة أحذ ينحصر تدريجيا مفسحا المجال لأنصار هذه
(1) محمد أبو العلاء عقيدة، الاتجاهات الحديثة في قانون العقوبات الفرنسي الجديد، دار الفكر العربي، لبنان، 1997، ص 43.
المسؤولية و للمعارضين و المؤيدين وجهة نظرهم التي استندوا عليها.(1)
الفرع الأول: الرأي المعارض
مؤدى الرأي المعارض الذي دافع عليه على وجه الخصوص فقهاء القرن التاسع عشر أنه لا يمكن مساءلة الشخص المعنوي جزائيا ذلك لأن المسؤولية الجزائية لا تقع إلا على عاتق الشخص الطبيعي أي ممثل الشخص المعنوي أو أحد القائمين بأعماله، و ذلك على أساس أنها وقعت من طرفهم شخصيا و تنسب إليهم ولا يمكن أن توقع أو تنسب إلى الشخص المعنوي وذلك بناء على الأسس التالية:
- أن الشخص المعنوي عديم الإرادة و الإدراك، كما أن أهليته محددة بالغاية التي نشأ من أجلها، فعلى مستوى الإسناد يستحيل من الناحية القانونية أن يسند للشخص المعنوي خطأ شخصيا حيث لا يتوفر له وجود حقيقي ولا يتمتع بالإرادة و المسؤولية الجزائية تستلزم لقيامها خطأ شخصي يتمثل في إمكانية إسناد هذا الخطأ للشخص الذي ارتكبه.(2) ولذا فالنتيجة المنطقية لهذه الحقيقة هي أن الشخص المعنوي هو محض خيال
fiction ou personne incorporelle ، ولا يمكن أن يكون محل للمسؤولية الجزائية وذلك أنه افتراض قانوني اقتضته الضرورة من أجل تحقيق مصالح معينة ولا يتصور إسناد الجريمة إليه من الناحيتين المادية و المعنوية.(3)
كما أن إرادته غير مستقلة على مسيره، وهو لا يستطيع القيام بالفعل المادي للجريمة وعلى مستوى العقوبة، فهناك عقوبات يستحيل توقيعها على الشخص المعنوي، كالإعدام
و العقوبات السالبة للحرية و إن أمكن توقيع بعضها فسوف نصيب بدون شك الأشخاص الطبيعيين و هؤلاء الأشخاص لا ذنب لهم في وقوع الجريمة، و بالتالي يؤدي تطبيقها على الشخص المعنوي إلى التعارض مع مبدأ شخصية العقوبة الذي يفيد عدم توقيعها إلا
Thery Garé, Catherine Gines tes, droit pénal, cour d’allor serie hyper cour édition 2000, page 11. (1)
(2) أحسن بوسقيعة، الوجيز في القانون الجزائي العام، الطبعة الثانية منقحة ومتممة، سنة 2004، دار النشر غير مذكورة، ص 216.
(3) فتوح عبد الله الشاذلي، و علي عبد القادر القهوجي، شرح قانون العقوبات النظرية العامة للجريمة، جامعة الإسكندرية، 1997، ص101.
على من ساهم في وقوع الجريمة.(1) وقد جاءت بنفس الفكرة كل من نظرية الحق دون صاحب.(2) والنظرية الافتراضية، فالأولى ترى بأن الشخص المعنوي خيال و لأن الأموال التي بحوزته لا مالك لها و أنه لا يسأل جنائيا لانعدام الأهلية لأنه محدد الغرض، الهدف بحسب ما أنشئ من أجله، فهو لم ينشأ لارتكاب جريمة أما الثانية فترى أن الشخص الطبيعي هو الوحيد الذي يتمتع بالشخصية الحقيقة و الكاملة و التي تستمد مصدرها من طبيعة الإنسان وأن دور القانون ما هو إلى كاشف لها وليس منشئ لها.
وإن إعطاء الشخص المعنوي الشخصية المعنوية ما هو إلا افتراضي و مجازي، ومن غير المنطقي مسائلة شخص افتراضي جنائيا لأنه من صنع وإنشاء القانون فقط ومن الفقهاء الذين نادوا بهذه الفكرة نذكر ( جيز، سافيني ).
ومن جانب الشريعة يذكر الدكتور عبد القادر عودة أنه يرى عدم إمكانية مسائلة الشخص الاعتباري جنائيا، ويقول بهذا الشأن:« لما كانت الشريعة تشترط أن يكون الفاعل مدركا مختارا فقد كان شخصا طبيعيا لأنه وحده المدرك.»(3)
مضيفا إلى ذلك:« عرفت الشريعة الإسلامية من يوم وجودها الشخصيات المعنوية فاعتبار بيت المال جهة و الوقف جهة أي شخصا معنويا وكذلك اعتبرت المدارس و المستشفيات و غيرها، وجعلت هذه الجهات، أو الشخصيات المعنوية أهلا لتملك الحقوق و التصرف فيها، ولكنها لم تجعلها أهلا للمسؤولية تبنى على الإرادة و الاختيار و كلاهما منعدم بدون شك في هذه الشخصيات و لكن إذا وقع الفعل المجرم من يتولى مصالح هذه الجهات أو الأشخاص المعنوية كما نسميها الآن فانه هو الذي يعاقب على الجناية ولو كان يعمل لصالح الشخص المعنوي.»(4)
(1) أحسن بو سقيعة، المرجع السابق، ص 16.
(2) منتدى قوانين السودان على الانترنيت. www. Lowofsudan.net. (3) فتوح عبد الله الشاذلي، و علي عبد القادر القهوجي، المرجع السابق، ص ص 27-28.
(4) محمد أبو العلاء عقيدة، ، المرجع السابق، ص 13.
الفرع الثاني: الرأي المؤيد
لقد قام أنصار هذا الرأي بالرد على مجموعة الحجج التي نادى بها المعارضون وهي في الأساس تتمثل في:
- إن القول بأن الشخص المعنوي افتراضي وغير عملي كلام مردود بحكم الواقع
و المنطق، لأنه أصبح حقيقة قانونية ليست في حاجة إلى إثبات حاليا كما أضحت إمكانية ارتكابه للجرائم حقيقة مؤكدة في مجال علم الإجرام.
- و أن القول بغير ذلك سيؤدي إلى عدم إمكانية تحمل هذا الشخص المعنوي حتى المسؤولية المدنية لانعدام الإرادة وهذا غير منطقي وعملي.
- كما سبق للقانون المدني و التجاري الاعتراف لهذه الجماعات بالشخصية الحقيقية، وحان الوقت ليعترف قانون العقوبات لها بذلك خاصة و أن حياتها مستقلة عن حياة أعضائها تتميز بإرادة ونشاط يختلفان عن إرادة و نشاط مكونيها.
- و أن القول بأن معاقبة الشخص المعنوي فيه خروج عن مبدأ شخصية العقوبة وفيه خلط بين أساس التجريم و طبيعة العقوبة و ما يترتب على الفعل المجرم من نتائج، كما أن الادعاء بعدم إمكانية معاقبة الشخص المعنوي بأنواع معينة من العقوبات مثل الإعدام و العقوبات السالبة للحرية يمكن دحضه من خلال أن طبيعة الشخص المعنوي تستلزم طبيعة معينة من العقوبات مثل عقوبة الحل، الغرامة، المصادرة، سحب الرخصة...الخ.(1)
ونظرا لأهمية الشخص المعنوي ودخوله الحياة بصورة فعالة مما جعل إمكانية الانحراف و الخطورة الإجرامية و تهديد المجتمع أمرا محتملا استوجب مسائلة الشخص المعنوي كالطبيعي، كما ان تطبيق مبدأ المساواة و تحقيق العدالة تطلب مسائلة الشخص المعنوي على ما اقترفه من جرائم سواء كانت تامة أو ناقصة مثل الشخص الطبيعي تماما و عن عدم فعل ذلك يعتبر مخالفا للعدل. ولقد أيدت النظرية الاجتماعية " نظرية النظم" هذا الموقف ومن زعماء هذه النظرية الفقهية " موريس
(1) أحسن بوسقيعة، المرجع السابق، ص 216.