هوريو" الذي يرى أن:« ظهور الشخص المعنوي كان نتيجة منطقية للتطور الاجتماعي فهي كائنات اجتماعية مثل الإنسان و تتمتع بطبيعة خاصة ولها شخصية حقيقة لم يخلقها أو ينشئها المشرع بل دوره وجوب الاعتراف بها فقط كالاعتراف بالمواليد الطبيعيين للإنسان وعليه فبإمكان الشخص المعنوي بعد ميلاده ممارسة حياة طبيعية حقيقية قانونية بعد الاعتراف به.
وأن الواقع يثبت إمكانية ارتكاب الشخص المعنوي الجرائم كما أن القانون المدني
و القضاء المدني يعترف بالمسؤولية المدنية للشخص المعنوي ومن التناقض إنكار المسؤولية في القانون و القضاء الجزائي.»(1)
(1) فتوح عبد الله الشاذلي، و علي عبد القادر القهوجي، المرجع السابق، ص42.
المطلب الثاني : الاتجاه التشريعي حول فكرة المسؤولية الجزائية.
الفرع الأول : مساءلة الشخص المعنوي في النظم المقارنة
بما أن التشريع الجزائري مستمد من التشريع الفرنسي في كثير من أحكامه فإننا سنتناوله كنموذج لدراستنا بالإضافة إلى التشريع المصري كنموذج ثان.
أولا : المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي في ظل التشريع الفرنسي :
I / الوضع في ظل قانون العقوبات الفرنسي القديم :
قرر القانون الفرنسي القديم المسؤولية الجزائية الأشخاص المعنوية بالمرسوم الصادر سنة 1670 و كرس تجاهه عقوبتي الغرامة و المصادرة إلا أنّ قانون العقوبات لسنة 1810 خال من أي نص يقرر هذه المسؤولية. و قد ظل الفقه طوال القرن الماضي يردد القول بعدم مسؤولية الشخص المعنوي جزائيا إلى أن بدأ في نهاية القرن التاسع عشر و على وجه التحديد في رسالة الفقيه الفرنسي Maestre سنة 1899 يعتقد بصراحة إمكانية مساءلة الشخص المعنوي جزائيا و إمكانية نسبة الجريمة إليه و محاسبته عليها(1).
و هناك بعض النصوص التي تشير إلى نوع من مسؤولية الشخص المعنوي جزائيا،
و لكنها نصوص متناثرة و وردت على سبيل الاستثناء، إذ أن القاعدة الرئيسية بقيت عدم مساءلة الشخص المعنوي جزائيا، و من هذه النصوص المادة (428) من قانون العقوبات الفرنسي الصادر في 1957 التي أجازت توقيع غرامات مالية ذات طبيعة جزائية على الجمعيات الفنية التي تثبت مسؤوليتها عند تقديم أعمال مسرحية بالمخالفة للقوانين
و اللوائح المنظمة لحقوق الملكية.
كما تضمنت بعض القوانين الخاصة الفرنسية تقرير هذه المسؤولية، سواء أكانت هذه المسؤولية مباشرة أم غير مباشرة، و من القوانين التي تضمنت المسؤولية المباشرة المادة (12) من القانون الصادر سنة 1945 الخاص بالرقابة على عمليات النقد و المادة 20/3 من قانون توزيع المنتجات الصناعية اللتان تنصان على أنه « إذا كان الشخص الطبيعي قد ارتكب جريمة لحساب الشخص المعنوي فإنه يمكن للمحاكم الحكم على الشخص المعنوي بالحرمان مؤقتا أو نهائيا من مزاولة نشاطه الذي وقعت الجريمة بمناسبته(2) ».
و نصت المادة (49/2) من قانون المخالفات الاقتصادية الصادر في 1916 عن جواز توقيع العقوبة مباشرة على الشخص المعنوي، إذا كانت المخالفة قد ارتكبها الشخص الطبيعي لحسابه و بمناسبة النشاط الذي يعنى به.
و من القوانين التي تضمنت المسؤولية غير المباشرة للشخص المعنوي المادة 36 من القانون الصادر في 9 كانون الأول 1905 في شأن مسؤولية الجمعيات الدينية، و المادة الثامنة من القانون الصادر في 22 تشرين الثاني 1938 في شأن قمع الغش الضريبي
و المادة 263 من ق العمل(1).
II ) الوضع في ظل قانون العقوبات الفرنسي الجديد
أما بعد صدور القانون العقوبات الفرنسي الجديد فإن تكريس المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية يعد من أهم ما جاء به هذا القانون ، و إن كانت هذه الفكرة ماثلة أمام اللجنة المكلفة من وزير العدل منذ سنة 1974 بإعداد تشريع جنائي يحل محل تقنين نابوليون الصادر سنة 1810 و تم إقرار هذه المسؤولية في المشروع حينها تعبير " التجمعات ذات الغرض التجاري أو الصناعي أو المالي" إلا أنه عاد عن هذه التسمية
و أحل محلها الشخص المعنوي "Personnes morales"، و قد نصت المادة (121/2) من قانون العقوبات الفرنسي الجديد ما يلي « بعد استبعاد الدولة، تسأل الأشخاص المعنوية جزائيا وفقا للتقسيم الوارد بالمواد 121/4 إلى 121/7 و في الحالات المنصوص عليها في التشريع أو اللائحة عن الجرائم التي ترتكب لحسابها بواسطة أعضائها «Organs» أو ممثليها «Représentants» و مع ذلك لا تسأل الهيئات المحلية و لا تجمعاتها جزئيا إلا عن الجرائم التي تقع أثناء ممارسة أنشطة قابلة لأن تكون موضوع اتفاقيات تفويض للخدمة العامة.
و لم يكتف المشرع الفرنسي بإقرار المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي صراحة بل ذهب أبعد من ذلك حينما صدر في 16 كانون الأول 1992 القانون الذي حدد قواعد الإجراءات الجزائية المتبعة في محاكمة الشخص المعنوي. المواد من (706–706/46).
و وفقا لهذه النصوص التي وردت في قانون العقوبات الفرنسي الجديد فإننا نستطيع القول أن هذا التقنين قد كرس هذا النوع من المسؤولية و اعترف بها بنص صريح و وضع الإجراءات الخاصة بمحاكمة الشخص المعنوي، و لكن استناد النص المادة السالفة الذكر، فإن هذه المسؤولية تتصف بصفتين رئيسيتين :
أولهما : أن مسؤولية الشخص المعنوي جزائيا لم تقرر في جميع الجرائم بل في جرائم تم تحديدها على سبيل الحصر، و إن كانت تشمل العديد من الجرائم إلا أنه لا تؤمن الرجوع إلى القسم الخاص في قانون العقوبات لتعديدها و من هنا جاء القول أن قانون العقوبات الفرنسي لم ينكر مسؤولية الشخص المعنوي جزائيا، كما أنه لم يقرها في جميع الجرائم بل اعترف بها و أقرها في العديد من الجرائم.
و ثانيهما : أن القانون الجديد لم يرد بهذه المسؤولية أن يعفي الشخص الطبيعي من مسؤوليته عن الجريمة، إنما كان غرضه ألا يتحمل الشخص الطبيعي وحده التبعات القانونية كاملة، عن قرار تم اتخاذه من قبل مجموعة من الأشخاص الطبيعيين يشكلون بإرادتهم المجتمعة إرادة الشخص المعنوي، أي أن القانون أراد أن يشرك كلا من الشخص المعنوي و الشخص الطبيعي في تحمل المسؤولية عن
الجريمة التي ارتكبت لحساب الشخص المعنوي و بواسطة أجهزته أو ممثليه(1).
أما فيما يتعلق بالعقوبات التي قررها القانون الجديد ليتم إيقاعها على الأشخاص المعنوية، فإن هذا القانون قد وضع نظاما متكاملا من العقوبات يشمل على أحكام تفصيلية، سواء من حيث العقوبة أو من حيث قواعد تطبيقها، و هذه العقوبات هي كما يلي:
الغرامة ، الحل، حضر ممارسة النشاط المهني أو الاجتماعي، غلق المؤسسة، وضع الشخص المعنوي تحت رقابة القضاء، إبعاد الشخص المعنوي عن المشاركة في المشروعات العامة. حضر الدعوى العامة للاستثمار، حضر إصدار الشيكات المصادرة، نشر الحكم الصادر بالإدانة.
ثانيا : المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية في التشريع المصري :
لا يوجد في قانون العقوبات المصري أي نص يقر المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية، فالمشرع المصري لا يعترف بهذا النوع من المسؤولية إلا في حالات استثنائية قليلة فقط، و هذه الحالات تتعلق بالتشريعات الاقتصادية.
و المسؤولية الجزائية قد تكون مباشرة، أي لا يسأل عنها إلا الشخص المعنوي كما قد تكون غير مباشرة فيسأل عنها الشخص الطبيعي الذي ارتكبها و الشخص المعنوي بالتضامن، و من أمثلة المسؤولية غير المباشرة في التشريعات المصرية المادة 58/2 من القانون الخاص بشأن التموين التي تنص على ما يلي « تكون الشركات و الجمعيات
و الهيئات مسؤولة بالتضامن مع المحكوم عليه بقيمة الغرامة و المصاريف» بالإضافة إلى المادة 11 من قانون تنظيم التعامل بالنقد الأجنبي، و المادة 68 من القانون الخاص بسوق رأس المال، و المادة 104 من القانون الخاص بالشركات(1)
و المادة 6 من القانون رقم 281 لسنة 1994 بشأن قمع التدليس و الغش و نصت على ما يلي :
«دون إخلال بمسؤولية الشخص الطبيعي المنصوص عليها في هذا القانون إذا وقعت لحسابه أو باسمه بواسطة أحد أجهزته أو ممثليه أو أحد العاملين لديه و يحكم على الشخص المعنوي بغرامة تعادل مثل الغرامة المعاقب بها عن الجريمة التي وقعت
و يجوز للمحكمة أن تقضي بوقف نشاط الشخص المعنوي المتعلق بالجريمة لمدة لا تزيد عن خمس سنوات أو بإلغاء الترخيص في مزاولة النشاط نهائيا»
و كون هذه المادة هي الوحيدة التي عالجت هذا النوع من المسؤولية فإننا نرى أنها تشكل البؤرة التي ستنطلق منها المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية، لتقرر في القانون العقابي المصري كقاعدة عامة.
فهذه المادة وردت بخصوص الجرائم المتعلقة بالتدليس و الغش فقط. و وردت كنوع من المسؤولية المباشرة، إذ أن الشخص المعنوي يعاقب مستقلا عن هذا النوع من الجرائم،
و إن كان هذا القانون قد أبقى على مسؤولية الشخص الطبيعي.
أما العقوبات التي قررتها هذه المادة فقد وردت عقوبة الغرامة، و تكون متماثلة للغرامة التي قررتها هذه المادة فقد وردت عقوبة الغرامة و تكون متماثلة للغرامة التي يتم إيقاعها على الشخص الطبيعي الذي يرتكب مثل هذه الجريمة، كما وردت عقوبة وقف نشاط الشخص المعنوي لمدة لا تزيد سنة، غير أنه في حالة العود فيجوز أن يكون وقف النشاط لمدة لا تزيد خمس سنوات، كما للمحكمة أن تلغي ترخيص الشخص المعنوي و تمنعه من مزاولة النشاط نهائيا(1).
و خلاصة القول أن المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية لم تتقرر في قانون العقوبات المصري، و لم يتم الاعتراف بها قطعيا، إلا أن هناك عددا قليلا من النصوص الذي أقر هذا النوع من المسؤولية و أخذ به، و قرر عقوبات خاصة ليتم إيقاعها على الشخص المعنوي الذي تنسب إليه الجريمة المرتكبة و من ذلك قانون التدليس و الغش رقم 281 لسنة 1994 و هو عبارة عن خطوة أولى تحتاج إلى خطوات طويلة لاحقة لتتقرر هذه المسؤولية في التشريعات العقابية المصرية.
الفرع الثاني : موقف المشرع الجزائري من م.ج.ش.م.
لقد تأثر المشرع الجزائري بالنهج الذي تبناه المشروع الفرنسي في قانون العقوبات الذي كان يقوم على رفض الإقرار بالمسؤولية الجنائية المطلقة للشخص المعنوي و جاء في المادة 121/2 من قانون العقوبات الفرنسي « الأشخاص المعنوية مسؤولة جزائيا عن الجرائم المرتكبة من قبل هيئاتها و ممثليها لحسابها » و يقصد بعبارة لحسابها أن الشخص المعنوي لا يسأل إلا عن الأفعال التي يتم تحقيقها لمصلحته أو لفائدته كتقديم رشوة لتحصل مؤسسة على صفقة.
و المشروع الجزائري كان يرفض كليا الاعتراف بمسؤولية الشخص المعنوي إلا بعد تعديل الأخير كما استبعد المادة 647 ق.إ.ج إمكانية توقيع العقوبة على الشخص المعنوي إلا بصفة استثنائية مع إمكانية اتخاذ تدابير أمن جيدة، و بالتالي فالمشروع أخذ بمبدأ عدم مساءلة الشخص المعنوي بل يسأل من يمثله جنائيا من أشخاص طبيعيين لأن المسؤولية مبنية على الإرادة و الإدراك الحر(2).