مجموعة الـ 6
ديدوش مراد
" لسنا خالدين سيأتي بعدنا جيل يحمل مشعل الثورة" ولد ديدوش مراد يوم 13 جويلية 1927 بحي المرادية بالعاصمة، تنتمي أسرة ديدوش مراد إلى منطقة ابسكرييين بنواحي أزفون بالقبائل الكبرى، والده كان يملك حمام بالقرب من الكاتدرالية بالقصبة.
تحصل على الشهادة الابتدائية عام 1939، ثم واصل دراسته بالثانوية التقنية بالحامة العناصر إلى غاية 1942.
غادر الثانوية التقنية عام 1942، وانتقل إلى قسنطينة لمواصلة دراسته، لكن وفاة والده حالت دون ذلك فعاد إلى العاصمة توظف في هيئة السكك الحديدية التي لم يدم بها طويلا إذ غادرها عام 1945 ليتفرغ للنشاط السياسي.
كانت له مهام أخرى تتمثل في تنشئة الشباب عن طريق الكشافة حيث أسس فوج الأمل بقيادة الشهيد ذبيح الشريف.
كما عرف حبه للرياضة وممارستها لها، فكون " فريق سريع مسلمي الجزائر المعروف" بـ (Rayad Athletic Musulman d’Alger ) “RAMA”
أنخرط في صفوف حزب الشعب الجزائري في 1943 وهو ابن السادسة عشر ليكون أحد المؤطرين لأحداث الثامن ماي 1945 بالجزائر العاصمة ليتولى بعدها الإشراف على أحياء المرادية والمدنية وبئر مراد رايس عام 1946.
كان حاضرا على غرار وطنيين آخريين في المؤتمر السري لحركة انتصار الحريات الديمقراطية المنعقد يوم 15 فيفري 1947 ببلكور وكان بيته الكائن بحي المرادية ملجأ لمناضلي حزب الشعب الجزائري وحركة انتصار الحريات الديمقراطية ومقر لاحتضان الاجتماعات السرية.
فالأحداث الدامية التي عرفتها الجزائر أثناء مظاهرات 08 ماي 1945 دفعت بحركة انتصار الحريات الديمقراطية إلى إعادة بناء الحزب من جديد وقد سمحت هذذه الفرصة للشهيد ديدوش مراد بلعب دور هام في إعادة تنظيم وإنشاء المنطقة الخاصة “OS” وأصبح من قادتها البارزين.
فتولي مناصب هامة ضمن المنظمة الخاصة الجناح المسلح لحركة انتصار الحريات الديمقراطية والتي أوكلت مهمة تأسيسها لمحمد بلوزداد، وفي هذا الصدد كلف بالإشراف على بعض أحياء العاصمة ليعود إلى قسنطينة في 1948 حيث أنشأ مجموعات شبه عسكرية بصفته مسؤولا عن المنظمة السرية قبل أن يعين كمسير جهوي للجزائر والبليدة عند اكتشاف المنظمة من طرف العدو في 1950، بدأت السلطات الاستعمارية تبحث عنه بإعتباره قائدا خطيرا وحكم عليه غيابيا بـ 10 سنوات سجنا، مما اضطره إلى الدخول في السرية.
" سي عبد القادر" وهو اسمه الثوري ألقي عليه القبض في وهران، قدم أمام قاضي التحقيق بعدة اتهامات لكنه تمكن من الفرار.
كما قام رفقة مصطفى بن بولعيد بإنشاء نواة لصناعة المتفجرات وهذا في عام 1952، ونظرا لما يتمتع به من مميزات القائد المحنك، وللظروف الغير المواتية، أرسل إلى فرنسا للعمل كمساعد لبوضياف في تنظيم خلايا الحزب.
وعند اشتداد الصراع داخل حركة الانتصار والحريات الديمقراطية عاد "سي عبد القادر" إلى الجزائر وأسس مع بعض المناضلين اللجنة الثورية للوحدة والعمل في 1954 CRUA وصار من محرري جريدة الوطني “Patriote” لسان حال اللجنة الثورية وخلال صيف 1954 شارك في اجتماع 22 التاريخي وأصبح بعدها عضوا في لجنة السنة، حيث كلف بمهمة الاتصال والتنسيق مع منطقة القبائل. كما كان أحد محرري بيان أول نوفمبر 1954 وعند إندلاع الثورة أسندت إليه القيادة في الشمال القسنطيني وبالتالي كان أول قائد لمنطقة الشمال القسنطيني التي أخذت فيما بعد تسمية الولاية الثانية وفي هذه الفترة بالذات كثف جهوده ضد الاستعمار الفرنسي.
وفي 18 جانفي 1955 كان العقيد ديدوش مراد رفقة 17 مجاهدا يحاولون الإنتقال من " بني ولبان" إلى دوار " الصوادق" بمنطقة السمندو بقسنطينة زيغود يوسف حاليا، توقفوا في وادي بوكركر، ولكن على إثر وشاية أحد العملاء، وجدوا أنفسهم محاصرين بمضلي العقيد " دو كورنو" Ducournan.
وأصطدم الطرفان في معركة غير متكافئة، إنتهت بإستشهاد البطل "ديدوش مراد".وهكذا يسقط قائد منطقة في ميدان الشرف والثورة في أوجها تاركا وراءه أقواله الخالدة:
" لسنا خالدين سيأتي بعدنا جيل يحمل مشعل الثورة".
"يجب أن نكون على استعداد للتضحية بكل شيء بما في ذلك حياتنا فإذا استشهدنا فحافظوا على مبادئنا"
*رشيد بن بوب دليل الجزائر السياسي- المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية الطبعة الأولى جانفي 1999.
محمد العربي بن مهيدي
"ارموا بالثورة إلى الشارع و سيحتضنها الشعب" ولد الشهيد محمد العربي بن مهيدي سنة 1923 بدوار الكواهي، ضواحي عين مليلة بالشرق الجزائري والتي كانت تابعة آنذاك لعمالة قسنطينة (1). كان ثاني إخوته وأخواته الأحياء، تكبره أخت ويصغره أختان وأخ واحد، وهو محمد الطاهر الذي استشهد سنة 1958 بناحية القل (2). والده هو عبد الرحمن مسعود بن مهيدي من قبيلة "المهايدية" المتفرعة عن عرش أولاد دراج. أما أمه فهي عائشة قاضي بنت حمو الساكنة بمدينة باتنة. كانت عائلة الشهيد ميسورة الحال، محافظة على أصالتها متمسكة بالدين الإسلامي، وتتولى خدمة طالب (معلم) القرآن الذي يعلم أبناء الدوار حيث تتكفل بشؤون حياته من مسكن، ملبس ومؤونة.
كان أبوه يشتغل بالتجارة في مصنع له بمدينة الخروب. ومن الطبيعي أن يتعلم محمد العربي القرآن الكريم كعادة أبناء الريف، حيث حفظ ما تيسر له منه، بعد ذلك ادخله والده مدرسة الخروب. ولأسباب عائلية لم يستطع الطفل تحملها في هذه السن، نقله أبوه إلى مدرسة عين مليلة، ولكن بعد المدرسة عن مسكنه أثر على تحصيله الأمر الذي جعل أبوه ينقله إلى خاله قاضي السعيد، بمدينة باتنة أين إلتحق بمدرسة العمراني (حاليا) وتحصل فيها على الشهادة الابتدائية.
بعد أن باع والده مصنعه بسبب خلافه مع مصلحة الضرائب التي كانت تضايقه، أنتقل جميع أفراد العائلة إلى مدينة بسكرة، أين تابع محمد العربي دراسته في القسم الإعدادي باللغة العربية، وعلى الرغم من اشتراكه في عدة مسابقات للقبول بمدارس قسنطينة إلا أن الاستعمار أقصاه كبقية أترابه الراغبين في مواصلة التحصيل العلمي. وحتى لا تصاب حياة ابنه بالعقم وفكره بالشلل، طلب الأب من المدرس علي مرحوم أن يعطي ابنه دروسا خصوصية في المنزل فكان له ذلك. وبعد افتتاح أول مدرسة للتربية والتعليم ببسكرة أوائل سنة 1943، التحق بها الشهيد وتلقى دراسة على يدي الشيخ السماتي محمد العابد المعروف بالجلالي نسبة إلى بلدة أولاد جلال (3).
بعد هذا القسط الذي حظي به من التعليم انتقل الشهيد إلى العمل في الوظيفة، حيث أشتغل بمصلحة التموين التابعة لثكنة باتنة العسكرية، وبما أنه كان شغوفا بمطالعة الكتب، فلقد كان يتردد على مكتبة الثكنة أين وقعت يداه ذات مرة على كتاب يتحدث عن مقاومة الصنديد "تاكفاريناس" العنيفة لروما، فاستقرت في ذهنه فكرة العنف ضد المستعمر لتحقيق حياة كريمة. ليتمكن بعدها من الاستيلاء على مسدسين من مخزن الأسلحة، وإثر تفطن إدارة الثكنة لاختفاء المسدسين بدأت تتبع خطوات محمد العربي الذي دفعه حبه الكبير للحرية إلى ترك الوظيفة التي لا تتماشى وميولاته وأشتغل في بعض الأعمال الحرة. ومن شدة كرهه للفرنسيين كثيرا ما كان يتشاجر مع الشرطي " بيرار" العامل بمركز شرطة بسكرة، المعروف بعنصريته المفرطة، مثل تشاجره بين الحين والآخر مع بعض الخونة.
ومن الصفات الأخلاقية التي كان يتميز بها الشهيد، حبه الانضباط في العمل والتدقيق فيه، والتنظيم والتخطيط في كل نشاط يقوم به، وإضافة إلى صبره الشديد عرف أيضا عن الشهيد التواضع وعدم الكبر، والابتعاد عن الارتجال.(4)
انضم محمد العربي إلى صفوف الكشافة الإسلامية في سن مبكرة (سنة 1939)، بفرع "الرجاء" بمدينة بسكرة وأصبح قائدا لفوج الفتيان بفضل انضباطه التام. لينضم في 1942 إلى خلية حزب الشعب التي كان يترأسها آنذاك أحمد غريب، ومنذ هذا الوقت ازداد نشاطه وصلبت إرادته. في سنة 1944 شارك الشهيد في مسرحية "في سبيل التاج" التي أخرجها مرشد الكشافة علي مرحوم، وأتقن دور البطولة الذي أسند إليه، كما عرضت هذه المسرحية في عدة مدن منها: بسكرة، قسنطينة، عنابة وقالمة. ولأن هذا العمل الفني الإبداعي بدأ يؤثر في الرأي العام، فهمت فرنسا أنه عبارة عن عمل نضالي من طرف حزب الشعب، فأصدرت قرارا يمنع الفرقة من التنقل إلى مدن أخرى. بالموازاة مع ذلك، ونظرا لحبه للرياضة وقصد نشر الوعي في أوساط الشباب انخرط الشهيد في فريق "الإتحاد الرياضي البسكري" الذي سرعان ما أصبح لاعبا ماهرا في صفوفه.
في مطلع شهر مارس من نفس السنة (1944) تأسس حزب أصدقاء البيان والحرية الذي ضم في صفوفه جميع الحساسيات الموجودة في الساحة، فانضم إليه الشهيد عن قناعة وإيمان عميقين، وقبل حلول شهر ماي 1945 أصدر الحزب أوامر لمناضليه من أجل التحضير ليوم 8 ماي، وذلك بالمطالبة بتحرير زعيم الحزب "مصالي الحاج" واستقلال الجزائر. وبمقر نادي بسكرة الذي كان محمد العربي كاتبا عاما له، والموجود بنهج "بولفار" سابقا، تمت خياطة العلم الجزائري تحت رعايته هو، كما قاد المظاهرات العارمة في اليوم الموعود رفقة المناضل محمد عصامي، وهما العنصران النشيطان اللذان ألقت عليهما شرطة العدو القبض أسبوعا واحدا بعد ذلك، ودامت فترة احتجاز الشهيد 21 يوما، تعرض خلالها للبحث والاستنطاق تحت ألوان شتى من التعذيب غير أنه لم يكشف عن أي سر. بعد شهر جويلية من سنة 1945، عين محمد العربي على رأس قسم جديد في إطار هيكلة حزب الشعب التي عرفت تجديدا على مستوى الخلايا والفروع والأقسام. في انتخابات 1946 ظهر حزب الشعب تحت إسم جديد "حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية"، وكان الشهيد من بين مؤسسيه وشارك في الدعاية ضد المرشحين من عملاء فرنسا. وعين الشهيد مسؤولا عن الجنوب الشرقي للبلاد في إطار المنظمة السرية التي أعلن عن إنشائها في اجتماع العاصمة المنعقد يومي 16-17 فيفري 1947، ليصبح في سنة 1949 مسؤولا عن ناحية سطيف حيث شغل منصب نائب لرئيس التنظيم السري على مستوى شرق البلاد المرحوم محمد بوضياف. وفي سنة 1950 تم تحويل هذا الأخير لنفس المهمة بالجزائر العاصمة وضواحيها فتولى محمد العربي مسؤولية التنظيم لناحية قسنطينة، عنابة وتبسة. وبعد اكتشاف أمر المنظمة السرية في نفس السنة، بسبب ما عرف "بقضية تبسة" آوى الشهيد مصطفى بن بولعيد مجموعة من إطارات التنظيم في منطقة الأوراس، منهم محمد العربي بن مهيدي، زيغود يوسف، عمار بن عودة، رابح بيطاط وغيرهم، وهي المجموعة التي يعود لها الفضل في تكثيف نشاط المنظمة بالمنطقة نظرا للجهود الجبارة التي بذلتها هناك.
في سنة 1952 عين الشهيد مسؤولا على دائرة وهران التي تنقل بها إلى عدة مناطق أهمها مغنية وعين تيموشنت(5). بعد حدوث أزمة 1953 قرر خمسة شبان وهم: مصطفى بن بولعيد، ديدوش مراد، محمد العربي بن مهيدي، محمد بوضياف ورابح بيطاط الإنتقال الفوري إلى الكفاح المسلح، وفي مارس 1954 تأسست "اللجنة الثورية للوحدة والعمل" على يد أولئك الرجال. وفي 23 جوان 1954 إجتمع 22 عضوا بارزا من المنظمة الخاصة في بيت المناضل إلياس دريش بأعالي العاصمة، ومنهم بن مهيدي، وهو الإجتماع الذي قال فيه كلمته الشهيرة "ارموا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب"، كما انبثقت عنه لجنة مكلفة بتحضير الثورة سميت "بمجموعة الستة" الذين عملوا على تهيئة الجو للدخول في الكفاح المسلح ومنه تقسيم البلاد إلى خمس مناطق، وعين بن مهيدي قائدا للمنطقة الخامسة ( الغرب الجزائري) ومن يومها صار يعرف باسم ثوري مستعار هو "الحكيم".
بعد سلسلة من الإجتماعات كان آخرها يومي 23-24 أكتوبر 1954 بالعاصمة نوقش خلاله نص بيان أول نوفمبر. على الرغم من الظروف الصعبة التي أحاطت بالعمل الثوري بتلك الجهة من الوطن إلا أن الشهيد خطط لهجومات أول نوفمبر بإحكام، وبعد تقسيم الأفواج وتحديد مواقع العدو المستهدفة، نفذ المجاهدون عدة عمليات تمت بنجاح شملت عدة نواحي بالمنطقة.
وقصد ضمان تموين المجاهدين بالسلاح، وإقامة جبهة موحدة هي "جيش تحرير المغرب العربي سافر "الحكيم" شهر ديسمبر 1954 إلى المغرب ثم إلى القاهرة ولم يعد إلا في أواخر جانفي 1955 من أجل إعادة بعث وتنظيم الثورة بالغرب. كما تعددت رحلات الشهيد في هذه السنة إلى المغرب من أجل تحقيق الحلم سابق الذكر.(6)
شارك الشهيد في أشغال مؤتمر الصومام (20 أوت 1956) وفي نهايته أسندت له مهمة الإشراف على العمليات الفدائية في إطار لجنة التنسيق والتنفيذ. وعلى هذا تنقل الشهيد إلى قلب العاصمة في أكتوبر 1956 لتنظيم خلايا الفدى، حيث كان يردد "سأحول مدينة الجزائر إلى ديان بيان فو ثانية" وما إن حل شهر جانفي 1957 حتى نظم إضراب الثمانية أيام الذي إنطلق يوم 27 جانفي ودام إلى غاية 4 فيفري من نفس السنة. ولكن بعدها بأيام قلائل (23 فيفري 1957) ألقي القبض على الشهيد بن مهيدي من طرف فرقة المظليين بالعاصمة، فتعرض للبحث والإستنطاق بوسائل تعذيب جهنمية غير أنه كان يردد أمام جلاديه "أمرت فكري بأن لا أقول لكم شيئا" وعندما سأله أحد الصحفيين لم تضعون القنابل في القفف لتنفجر في وجه الجيش الإستعماري أجابه الشهيد بذكاء:" إعطونا طائراتكم ومدافعكم نعطيكم قففنا."
وهنا فقط قررت حكومة العدو تصفيته يوم 4 مارس 1957. فترك وراءه سجلا حافلا بالبطولات باعتراف العدو قبل الصديق، إذ قال عنه السفاح بيجار:" لو كانت لي ثلة من أمثال محمد العربي بن مهيدي لفتحت العالم".
مصطفى بن بولعيد
من مواليد 5 فيفري 1917 بقرية "اينركب" بأريس ولاية باتنة وعائلته تنتمي إلى عرش " التوابة" ميسورة الحال وتملك الأراضي.
تلقى كجل الأطفال الجزائريين آنذاك تكوينا تقليديا على أيدي مشايخ منطقته يتمثل في حفظ ما تيسر له من القرآن الكريم بعد هذا التحصيل تحول إلى عاصمة الولاية باتنة للإلتحاق بمدرسة الأهالي الإبتدائية لمواصلة دراسته، ثم انتقل إلى الطور الإعدادي.
وهنا لاحظ بن بولعيد سياسة التفرقة والتمييز التي تمارسها الإدارة الاستعمارية بين الأطفال الجزائريين واقرانهم من أبناء المعمرين. وخوفا من تأثر ولده وذوبانه في الشخصية الاستعمارية أوقف والد بن بولعيد ولده عن الدراسة بالكوليج، لكن طموح الفتى وإرادته في تحصيل المزيد من العلوم دفعه إلى الالتحاق بمدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في آريس وكان يشرف عليها آنذاك مسعود بلعقون والشيخ عمر دردور، وفي هذه الأثناء كان يساعد والده في الأشغال المتعلقة بخدمة الأرض وكذلك التجارة غير أن وفاة الوالد في 7 مارس 1935 قلبت حياة الشهيد الذي أصبح المسؤول الأول عن عائلته وهو في الثامنة عشر من عمره. ونظرا لمشاهد البؤس اليومية التي كانت تعيشها الطبقات المحرومة أسس بن بولعيد جمعية خيرية كان من أول ما قامت به هو بناء مسجد بآريس ليكون محورا للتعاون والتضامن بين المواطنين، خاصة التصدي لروح التفرقة و التناحر بين العروش التي كانت تغذيها السلطات الاستعمارية وأذنابها للتحكم في العباد والأوضاع وكان نشاط بن بولعيد الاجتماعي عملا إستراتيجيا يرمي من ورائه إلى توثيق اللحمة والأواصر التي تربط بين أبناء المنطقة للتمسك بها عند الشدائد.
ونظرا لحالة البؤس التي كانت تتخبط فيها منطقة الأوراس في فترة ما بين الحربين العالميتين على غرار باقي مناطق الوطن سافر بن بولعيد سنة 1937 إلى فرنسا واستقر بمنطقة (ميتز) التي تكثر بها الجالية الجزائرية من العمال المحرومين من كل الحقوق وقد مكنته مواقفه في حل مشاكلهم والدفاع عنهم إلى ترأس نقابتهم.
لكن غربته لم تدم أكثر من سنة حيث عاد بعدها إلى مسقط رأسه وإلى نشاطه الأول والمتعلق بالفلاحة والتجارة. ومع الوقت تحول محله التجاري إلى شبه ناد يتردد عليه شباب المنطقة من أمثال مسعود عقون، ابن حاية وغيرهم للخوض في الأوضاع التي كانت تعيشها البلاد.
في بداية 1939 استدعي بن بولعيد لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية وتم تسريحه في 1942 نتيجة الجروح التي أصيب بها ثم تم تجنبده ثانية ما بين 1943 –1944 بخنشلة. بعد تسريحه نهائيا برتبة مساعد عاد إلى الحياة المدنية وتحصل على رخصة لاستغلال خط نقل بواسطة الحافلات يربط بين أريس- باتنة.
وفي هذه الأثناء انخرط بن بولعيد في صفوف حزب الشعب حركة انتصار الحريات الديموقراطية بأريس تحت قيادة مسعود بلعقود وقد عرف بالقدرة الكبيرة على التنظيم والنشاط الفائق مما دفع بالحزب إلى ترشيحه لانتخابات المجلس الجزائري في 4/04/1948 والتي فاز بالدور الأول منها لكن الإدارة الفرنسية لجأت إلى التزوير كعادتها لتزكية أحد المواليين لسياستها. وقد تعرض بن بولعيد إلى محاولتي اغتيال من تدبير العدو وذلك في 1949 و1950 ، كما تعرض أخوه عمر إلى محاولة اغتيال في 1951 .
يعتبر بن بولعيد من الطلائع الأولى التي انضمت إلى المنظمة السرية بمنطقة الأوراس كما كان من الرواد الأوائل الذين أنيطت بهم مهمة تكوين نواة هذه المنظمة في الأوراس التي ضمت آنذاك خمسة خلايا نشيطة واختيار العناصر القادرة على جمع الأسلحة والتدرب عليها والقيام بدوريات استطلاعية للتعرف على تضاريس الأرض من جهة ومن جهة ثانية تدبر امكانية إدخال الأسلحة عن طريق الصحراء. وفي هذا الشأن يقول عبد القادر العمودي أحد أعضاء مجموعة الـ22 في الحديث الذي أدلى به للمركز:" أصدر الحزب أمرا بشراء الأسلحة لغرضين:
- شراء سلاح وذخيرة يوجه لتحضير انطلاق الثورة كاحتياط استراتيجي.
- شراء سلاح يوجه لتدريب المناضلين.
وقد أحضر محمد بلوزداد الأموال اللازمة لذلك وسلمها لمحمد عصامي مسؤول الحزب في بسكرة وكلف هذا الأخير أحمد ميلودي ومحمد بلحاج بالذهاب إلى ليبيا لشراء السلاح في رحلة على الجمال دامت 20 يوما وتمكنا من النجاح وعادا إلى الوادي وخزنا السلاح لدى المناضل عدوكة بلقاسم. وبعد فترة نقل عبد القادر العمودي ومجموعة من المناضلين حمولة 7 جمال من السلاح والذخيرة من الوادي إلى زريبة حامد وقد أعطى العمودي بصفته مسؤولا عن المنطقة الأمر لمصطفى بن بولعيد لتدبر أمر نقل هذا السلاح من زريبة حامد إلى الأوراس وهذا ما تم فعلا".
بعد اكتشاف المنظمة السرية من قبل السلطات الاستعمارية في مارس 1950 برز دور بن بولعيد بقوة لما أخذ على عاتقه التكفل بإيواء بعض المناضلين المطاردين وإخفائهم عن أعين العدو وأجهزته الأمنية، وقد أعقب اكتشاف المنظمة حملة واسعة من عمليات التمشيط والاعتقال والاستنطاق الوحشي بمنطقة الأوراس على غرار باقي مناطق الوطن. ولكن بالرغم من كل المطاردات والمضايقات وحملات التفتيش والمداهمة تمكن بن بولعيد بفضل حنكته وتجربته من الإبقاء على المنظمة الخاصة واستمرارها في النشاط على مستوى المنطقة. وبالموازاة مع هذا النشاط المكثف بذل مصطفى بن بولعيد كل ما في وسعه من أجل احتواء الأزمة بصفته عضو قيادي في اللجنة المركزية للحزب. وقد كلف بن بولعيد في أكتوبر 1953 وبتدعيم من نشطاء L’OS بالاتصال بزعيم الحزب مصالي الحاج الذي كان قد نفي في 14 ماي 1954 إلى فرنسا ووضع تحت الإقامة الجبرية، وذلك في محاولة لإيجاد حل وسطي يرضي المركزيين والمصاليين لكن تعنت مصالي وتمسكه بموقفه أفشل هذا المسعى. ومرة أخرى يحاول بن بولعيد في محاولة ثانية لإيجاد مخرج من الأزمة التي يتخبط فيها الحزب الإتصال بمصالي الحاج بنيور NIORT في الفترة من 23 إلى 26 فيفري 1954 غير أن جواب هذا الأخير كان بإعلان ميلاد "لجنة الإنقاذ العام" في الشهر الموالي (مارس).
وأمام انسداد الأفق وتصلب المواقف توصل أنصار العمل الثوري المسلح وفي طليعتهم بن بولعيد إلى فكرة إنشاء "اللجنة الثورية للوحدة والعمل" والإعلان عنها في 06 مارس 1954 من أجل تضييق الهوة التي تفصل بين المصاليين والمركزيين من جهة وتوحيد العمل والالتفاف حول فكرة العمل الثوري من جهة ثانية.
وفي محاولة أخيرة تنقل مصطفى بن بولعيد إلى مدينة هورنو (بلجيكا) في النصف الثاني من شهر جويلية 1954 للمشاركة في أشغال مؤتمر المصاليين من أجل التوصل إلى تقريب رؤى الطرفين المتناحرين حتى يتفرغ الجميع للقضية الأساسية ألا وهي تحرير الوطن ولا يتأتى ذلك إلا بتوحيد جهود كل أبناء الوطن المخلصين ومرة أخرى يمنى مشروع بن بولعيد بالفشل في مسعاه.
وأمام هذا الانسداد السياسي لم يجد بن بولعيد أمامه من سبيل إلا التنصل من الخصمين المتصارعين (المركزيين والمصاليين) والتفرغ للهدف الأسمى ألا وهو التحضير بجدية للعمل الثوري الكفيل بإخراج الجزائر من محنة الاستعمار. وبعد عدة اتصالات مع بقايا التنظيم السري L’OS تم عقد اللقاء التاريخي لمجموعة الـ22 بدار المناضل المرحوم الياس دريش بحي المدنية في 24 جوان 1954 ( 1) الذي حسم الموقف لصالح تفجير الثورة المسلحة لاسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة منذ اكثر من قرن مضى. ونظرا للمكانة التي يحظى بها بن بولعيد فقد أسندت إليه بالإجماع رئاسة اللقاء الذي انجر عنه تقسيم البلاد إلى مناطق خمس وعين على كل منطقة مسؤول وقد عين مصطفى بن بولعيد على راس المنطقة الأولى: الأوراس كما كان أحد أعضاء لجنة "الستة" (بوضياف، ديدوش، بن بولعيد، بيطاط، بن مهيدي، كريم).
ومن أجل توفير كل شروط النجاح والاستمرارية للثورة المزمع تفجيرها، تنقل بن بولعيد رفقة: ديدوش مراد، محمد بوضياف ومحمد العربي ين مهيدي إلى سويسرا خلال شهر جويلية 1954 بغية ربط الاتصال بأعضاء الوفد الخارجي (بن بلة، خيضر وآيت أحمد) لتبليغهم بنتائج اجتماع مجموعة الـ22 من جهة وتكليفهم بمهمة الإشراف على الدعاية لصالح الثورة وطرق كل الأبواب قصد إمدادها بأكبر قدر ممكن من الأسلحة ومن مختلف المصادر.
ومع اقتراب الموعد المحدد لتفجير الثورة تكثفت نشاطات بن بولعيد من أجل ضبط كل كبيرة وصغيرة لإنجاح هذا المشروع الضخم، وفي هذا الإطار تنقل بطلنا إلى ميلة بمعية كل من محمد بوضياف وديدوش مراد للاجتماع في ضيعة تابعة لعائلة بن طوبال وذلك في سبتمبر 1954 بغرض متابعة النتائج المتوصل إليها في التحضير الجاد لإعلان الثورة المسلحة ودراسة احتياجات كل منطقة من عتاد الحرب كأسلحة والذخيرة. ومن ضمن ما تم الإتفاق عليه في هذا اللقاء هو استظهار الأسلحة المخبأة بالأوراس ونقل قسط منها إلى بعض جهات الوطن. وهكذا تحصلت المنطقة الثانية (الشمال القسنطيني) على 30 قطعة والمنطقة الثالثة (القبائل) على 80 قطعة بينما تم توزيع الأسلحة المتبقية على مختلف الأفواج للقيام بالعمليات المقررة في ليلة فاتح نوفمبر 1954 في منطقة الأوراس.و في 10 أكتوبر 1954 التقى بن بولعيد، كريم بلقاسم ورابح بيطاط في منزل مراد بوقشورة بالرايس حميدو وأثناء هذا الإجتماع تم الإتفاق على:
1. إعلان الثورة المسلحة بإسم جبهة التحرير الوطني.
2. إعداد مشروع بيان أول نوفمبر 1954 .
3. تحديد يوم 22 أكتوبر 1954 موعدا لإجتماع مجموعة الستة لمراجعة مشروع بيان أول نوفمبر وإقراره.
4. تحديد منتصف ليلة الإثنين أول نوفمبر 1954 موعدا لانطلاق الثورة المسلحة.
وطيلة المدة الفاصلة بين الإجتماعين لم يركن بن بولعيد إلى الراحة بل راح ينتقل بين مختلف مناطق الجهة المكلف بها (الأوراس) ضمن العديد من الزيارات الميدانية للوقوف على الاستعدادات والتحضيرات التي تمت وكذا التدريبات التي يقوم بها المناضلون على مختلف الأسلحة وصناعة القبائل والمتفجرات التقليدية. وفي التاريخ المحدد التأم شمل الجماعة التي ضمت: بن بولعيد، بوضياف، بيطاط، بن مهيدي، ديدوش وكريم وذلك بمنزل مراد بوقشورة أين تم الإتفاق على النص النهائي لبيان أول نوفمبر 54 إثر مراجعته والتأكيد بصورة قطعية على الساعة الصفر من ليلة فاتح نوفمبر 54 لتفجير الثورة المباركة وأجمع الحاضرون على إلتزام السرية بالنسبة للقرار النهائي التاريخي والحاسم ثم توجه كل واحد إلى المنطقة التي كلف بالإشراف عليها في انتظار الساعة الصفر والإعداد لإنجاح تلك العملية التي ستغير مجرى تاريخ الشعب الجزائري. وهكذا عقد بن بولعيد عدة اجتماعات بمنطقة الأوراس حرصا منه على انتقاء الرجال القادرين على الثبات وقت الأزمات والشدائد، منها اجتماع بلقرين يوم 20/10/1954 الذي حضره الكثير من مساعديه نذكر منهم على الخصوص: عباس لغرور، شيهاني بشير،عاجل عجول والطاهر نويشي وغيرهم وخلال هذا اللقاء أعلم بن بولعيد رفاقه بالتاريخ المحدد لتفجير ثورة التحرير كما وزع على الحضور بيان أول نوفمبر وضبط حصة كل جهة من الأسلحة والذخيرة المتوفرة. وقبل مرور أسبوع على هذا اللقاء عقد بن بولعيد اجتماعين آخرين في 30 أكتوبر 1954 أحدهما في دشرة (اشمول) والآخر بخنقة الحدادة التقى أثناءهما بمجموعة من أفواج المناضلين وألقى كلمة حماسية شحذ فيه همم الجميع. وفي الغد عقد اجتماعا قبل الساعة صفر، وقد ضم هذا الأخير قادة النواحي والأقسام وفيه تقرر تحديد دشرة أولاد موسى وخنقة لحدادة لإلتقاء أفواج جيش التحرير الوطني واستلام الأسلحة وأخذ آخر التعليمات اللازمة قبل حلول الموعد التاريخي والإنتقال إلى العمل المسلح ضد الأهداف المعنية. وكان السلاح قد استخرج من مطامر قرية الحجاج وتم جرده، تنظيفه وإعداده للحظة الحسم. وفي تلك الليلة قال بن بولعيد قولته الشهيرة:" إخواني سنجعل البارود يتكلم هذه الليلة." وتكلم البارود في الموعد المحدد وتعرضت جل الأهداف المحددة إلى نيران أسلحة جيس التحرير الوطني وسط دهشة العدو وذهوله. وفي صبيحة يوم أول نوفمبر 54 كان قائد منطقة الأوراس مصطفى بن يولعيد يراقب ردود فعل العدو من جبل الظهري المطل على أريس بمعية شيهاني بشير، مدور عزوي، عاجل عجول ومصطفى بوستة. وقد حرص بن بولعيد على عقد اجتماعات أسبوعية تضم القيادة ورؤساء الأفواج لتقييم وتقويم العمليات وتدارس ردود الفعل المتعلقة بالعدو والمواطنين، وبعد تضييق العدو الخناق على الثورة بالأوراس انتقلت قيادة المنطقة الأولى إلى مشونش المنيعة لتعود بعد شهر فقط إلى كيمل.
وبعد حوالي شهرين من اندلاع الثورة أي في أواخر ديسمبر 54 اتجه بن بولعيد إلى مدينة بسكرة للإتصال بمحمد بلحاج لمده بالأسلحة لكن هذا الأخير كان قد أعطى ما عنده للمصاليين مخيبا بذلك ظن قائد الأوراس. وفي طريق العودة إلى مقر القيادته نجى بن بولعيد بأعجوبة من الحصار في غسيرة. وفي بداية شهر جانفي 1955 عقد هذا الأخير اجتماعا في تاوليليت مع إطارات الثورة تناول بالأخص نقص الأسلحة والذخيرة، وقد فرضت هذه الوضعية على بن بولعيد اعلام المجتمعين بعزمه على التوجه إلى بلاد المشرق بهدف التزود بالسلاح ومن ثم تعيين شيهاني بشير قائدا للثورة خلال فترة غيابه ويساعده نائبان هما: عاجل عجول وعباس لغرور. وكذلك تشكيل الدورية التي ترافقه إلى الحدود التونسية والليبية. وفي 24 جانفي 1955 غادر بن بولعيد الأوراس باتجاه المشرق وبعد ثلاثة أيام من السير الحثيث وسط تضاريس طبيعية صعبة وظروف أمنية خطيرة وصل إلى " القلعة " حيث عقد اجتماعا لمجاهدي الناحية لاطلاعهم على الأوضاع التي تعرفها الثورة وأرسل بعضهم موفدين من قبله إلى جهات مختلفة من الوطن مثل: سوق اهراس، خنشلة، ورقلة، خنقة سيدي ناجي، تقرت وغيرها. بعد ذلك واصل بن بولعيد ومرافقه عمر المستيري الطريق باتجاه الهدف المحدد. وبعد مرورهما بناحية نقرين (تبسة ) التقيا في تامغرة بعمر الفرشيشي الذي ألح على مرافقتهما كمرشد. وعند الوصول إلى " أرديف " المدينة المنجمية التونسية، وبها يعمل الكثير من الجزائريين، اتصل بن بولعيد ببعض هؤلاء المنخرطين في صفوف الحركة الوطنية، وكان قد تعرف عليهم عند سفره إلى ليبيا في منتصف أوت 1954، وذلك لرسم خطة تمكن من إدخال الأسلحة، الذخيرة والأموال إلى الجزائر عبر وادي سوف. غير أن حلقة الإتصال انقطعت بوادي سوف وبالتالي اعتبرت نتائج هذه الرحلة سلبية. وانتقل بن بولعيد من أرديف إلى المتلوي بواسطة القطار ومن هناك استقل الحافلة إلى مدينة قفصة حيث بات ليلته فيها رفقة زميليه. وفي الغد اتجه إلى مدينة قابس حيث كان على موعد مع المجاهد حجاج بشير، لكن هذا اللقاء لم يتم بين الرجلين نظرا لاعتقال بشير حجاج من قبل السلطات الفرنسية قبل ذلك. وعند بلوغ الخبر مسامع بن بولعيد ومخافة أن يلقى نفس المصير غادر مدينة قابس على جناح السرعة على متن أول حافلة باتجاه بن قردان رفقة عمر الفريشي أما عمر المستيري فلم يتمكن من اللحاق بالحافلة. وفي مدينة مدنين صعدت فرقة من الصبايحية، ولم تقم بتفتيش الركاب. وعند وصول الحافلة إلى المحطة النهائية بن قرادن طلب هؤلاء من كل الركاب التوجه إلى مركز الشرطة، وحينها أدرك بن بولعيد خطورة الموقف فطلب من مرافقه القيام بنفس الخطوات التي يقوم بها، وكان الظلام قد بدأ يخيم على المكان فأغتنما الفرصة وتسللا بعيدا عن مركز الشرطة عبر الأزقة. وبعد مطاردة مثيرة عثرت عليهما فرقة الصبايحية مختبئين في أحد البساتين ولما اقترب منهما أحد أفراد الدورية أطلق عليه بن بولعيد النار من مسدسه فقتله. وواصلا هروبهما سريعا عبر الطريق الصحراوي كامل الليل وفي الصباح اختبأ، وعند حلول الظلام تابعا سيرهما معتقدين أنهما يسيران باتجاه الحدود التونسية-الليبية لأن بن بولعيد كان قد أضاع البوصلة التي تحدد الإتجاه، كما أنه فقد إحدى قطع مسدسه عند سقوطه.
ولما بلغ منهما العياء والجوع كل مبلغ اختبأ في مكان قرب شعبة صغيرة في انتظار بزوغ الشمس. وما أن طلع النهار حتى كانت فرقة الخيالة تحاصر المكان وطلب منهما الخروج وعندما حاول بن بولعيد استعمال مسدسه وجده غير صالح وإثر ذلك تلقى هذا الأخير ضربة أفقدته الوعي وهكذا تم اعتقال بن بولعيد يوم 11 فيفري 1955.
وفي 3 مارس 1955 قدم للمحكمة العسكرية الفرنسية بتونس التي أصدرت يوم 28 ماي 1955 حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة بعدها نقل إلى قسنطينة لتعاد محاكمته من جديد أمام المحكمة العسكرية في 21 جوان 1955 وبعد محاكمة مهزلة أصدرت الحكم عليه بالإعدام.ونقل إلى سجن الكدية الحصين.وفي السجن خاض بن بولعيد نضالا مريرا مع الإدارة لتعامل مساجين الثورة معاملة السجناء السياسيين وأسرى الحرب بما تنص عليه القوانين الدولية. ونتيجة تلك النضالات ومنها الإضراب عن الطعام مدة 14 يوما ومراسلة رئيس الجمهورية الفرنسية تم نزع القيود والسلاسل التي كانت تكبل المجاهدين داخل زنزاناتهم وتم السماح لهم بالخروج صباحا ومساء إلى فناء السجن، كما نقلوا من الزنزنات إلى القاعة المدرعة. وفي هذه المرحلة واصل بن بولعيد مهمته النضالية بالرفع من معنويات المجاهدين ومحاربة الضعف واليأس من جهة والتفكير الجدي في الهروب من جهة ثانية. وبعد تفكير متمعن تم التوصل إلى فكرة الهروب من القاعة المدرعة عن طريق حفر نفق يصلها بمخزن من البناء الاصطناعي وبوسائل جد بدائية شرع الرفاق في عملية الحفر التي دامت 28 يوما كاملا. وقد عرفت عملية الحفر صعوبات عدة منها الصوت الذي يحدثه عملية الحفر في حد ذاتها ثم الأتربة والحجارة الناتجة عن الحفر وتم ايجاد حلول لهذه المعضلات. وفي المخزن المجاور للقاعة المدرعة وجد بن بولعيد ورفاقه بعض الأدوات التي تساعد على صنع سلم للصعود إلى الدور الأول ثم السور الخارجي والنزول منه خارج السجن. وقد فكر بن بولعيد في تنظيم خطة عادلة للفرار وشرحها لرفاقه وهي إجراء عملية القرعة التي يستثني منها الذين شاركوا في العمل إذ يخرجون قبل غيرهم كما استثنت الجماعة بن بولعيد من القرعة ولما تم تحديد اليوم والتوقيت ودقت ساعة الحسم صلى المقبلون على الفرار ركعتين لله وشرعوا في التسلل نحو النفق المؤدي إلى المخزن ومنه إلى السورين الأول فالثاني مستعملين السلم في عمليتي الصعود ثم النزول نحو فضاء الحرية والإنعتاق وقد تمكن من الفرار من هذا السجن الحصين والمرعب كل من مصطفى بن بولعيد، محمد العيفة، الطاهر الزبيري، لخضر مشري، علي حفطاوي، ابراهيم طايبي، رشيد أحمد بوشمال، حمادي كرومة، محمد بزيان، سليمان زايدي وحسين عريف. وبعد مسيرة شاقة على الأقدام الحافية المتورمة والبطون الجائعة والجراح الدامية النازفة وصبر على المحن والرزايا وصلوا إلى مراكز الثورة. وكان بن بولعيد يسير رفقة محمد العيفة. وقد استقبل الفارون من سجن الكدية استقبال الفاتحين الأبطال. وفي طريق العودة إلى مقر قيادته أخذ قسطا من الراحة والعلاج ومن ثم انتقل إلى كيمل حيث عقد سلسلة من اللقاءات مع إطارات الثورة ومسؤوليها بالناحية، كما قام بجولة تفقدية إلى العديد من الأقسام للوقوف على الوضعية النظامية والعسكرية بالمنطقة الأولى (الأوراس ). وقد تخلل هذه الجولة إشراف بن بولعيد على قيادة بعض أفواج جيش التحرير الوطني التي خاضت معارك ضارية ضد قوات العدو وأهمها: معركة ايفري البلح يوم 13/01/1956 ودامت يومين كاملين والثانية وقعت بجبل أحمر خدو يوم 18/01/1956.
وقد عقد آخر اجتماع له قبل استشهاده يوم 22 مارس 1956 بالجبل الأزرق بحضور إطارات الثورة بالمنطقة الأولى وبعض مسؤولي جيش التحرير الوطني بمنطقة الصحراء. ومساء اليوم نفسه أحضر إلى مكان الاجتماع جهاز إرسال واستقبال ألقته قوات العدو وعند محاولة تشغيله انفجر الجهاز الذي كان ملغما مخلفا استشهاد ستة مجاهدين على رأسهم قائد المنطقة الأولى سي مصطفى بن بولعيد وخمسة من رفاقه وبذلك تسدد قوات العدو ضربة موجعة ولكنها غير قاضية لثورة نوفمبر 54.
المراجع:
1- الشهيد مصطفى بن بولعيد: إعداد المتحف الوطني للمجاهد 2000.
2- مصطفى بن بولعيد والثورة الجزائرية 1954: انتاج جمعية أول نوفمبر لتخليد وحماية مآثر الثورة في الأوراس،1999، باتنة.
3- مجلة الجيش، السنة 17، العدد 200، نوفمبر 1980، ص 6.
4- Benjamin Stora, Dictionnaire Biographique de militants Nationalistes Algeriens 1926-1954, P 273.