[b]
بلا شك أن تحديد مفهوم الدولة في الشريعة الإسلامية يستلزم أولاً تحديد
مفهوم الدولة في العلوم الإجتماعية والقانونية الحديثة ، لتوضيح مدى قرب
وبعد المفهوم في الشريعة الإسلامية عنها . " وأول عناصر التعريف هو أن
الدولة كيان سياسي – قانوني . وينطوي هذا على حقيقة أنها بناء أو هيكل لـ
" القوة " (Power) تحكمه مجموعة من القواعد المقننة . ويتجسد هذا الهيكل
في جهاز بيروقراطي مدني – عسكري – أمني . وتعني قواعده المقننة أن له صفات
تتجاوز شخصانية الأفراد الذين يديرونه من ناحية ، وشخصانية الأفراد الذين
يتعامل معهم هذا الجهاز من ناحية أخرى . فهناك تقنين لحقوق من يديرون جهاز
الدولة وواجباتهم ، وتقنين لحقوق من يتعامل معهم جهاز الدولة وواجباتهم
(المواطنون أو الرعايا) .
والعنصر
الثاني في تعريف الدولة هو أنها ذات سلطات سيادية وينطوي هذا على أن هيكل
القوة الذي تمثله الدولة ، نظرياً على الأقل ، أعلى هياكل القوة في
المجتمع ، وله وحده دون هياكل القوة الأخرى مشروعية ممارسة هذه القوة ،
بما في ذلك حق الإستخدام المنفرد للعنف . فرغم أن المجتمع قد يحتوي على
تكوينات أخرى تملك وتمارس القوة (بمعنى القدرة على التأثير في سلوك
الآخرين ، أو المشاركة في إتخاذ القرار وتوزيع الثروة) ، مثل الأحزاب
والنقابات أو الطوائف والقبائل وغيرها من التنظيمات غير الحكومية ، إلا أن
الدولة وحدها هي صاحبة الحق في إستخدام هذه الوسيلة من وسائل القوة ، ألا
وهي العنف .
العنصر الثالث في التعريـف هو " الإعتراف " بشرعية هذا
الكيان السياسي القانوني ، داخلياً وخارجيـاً . والإعتراف داخلياً يعني أن
أغلبية أفراد المجتمع يقـرون بحق هذا الكيان في ممارسة السلطة عليهـم .
وهذا الإقرار قد يتراوح بين الحد الأدنى وهو الإذعان ، والحد الأقصى وهو
التأييد والإعتـزاز . والإقرار بالحد الأدنى يعني عدم مقاومة سلطة الدولة
، أما الحد الأقصى فهو التهيؤ والإستعداد لحماية هذه الدولة والتضحية في
سبيلها . أما الإعتراف خارجياً فيعني الدول الأخرى ، أو بعضها على الأقل ،
تقبل بوجود هذا الكيان في الأسرة الدولية أو النظام الدولي .
العنصر
الرابع في التعريف هو شرط توافر الأرض أو الإقليم ، الذي تمارس عليه وفيه
سلطة الكيان السياسي – القانوني . وهذا يعني أن لكل دولة حدوداً معروفة ،
وعادةً ما يتوقف شرط الإعتراف الخارجي بالدولة على توافر هذا الشرط
الجغرافي الأرضي ، وبخاصة من دول الجوار .
العنصر الخامس والأخير في
تعريف الدولة هو شرط توافر البشر ، قل عددهم أو كثر ، الذين يعيشون بشكل
شبه دائم على أرض (أو إقليم) الدولة . وعادةً ما يعرف هؤلاء البشر بأسم
الشعب (People) أو المواطنين (Citizen) أو الرعايا (Subjects) .
قد
يبدو تعريف الدولة على هذا النحو مغرقاً في قانونيته . وهذا إنطباع صحيح ،
لان الدولة هي أولاً كيان سياسي – قانوني ، ولأنها ككيان هذه طبيعته ،
تحرص هي نفسها على تحديد تعاملاتها الداخلية وبشكل مقنن .
تبنت مدرسة
القانون الدستورية مفهوم الدولة كما تصوره هيغل بصفتها تعبيراً عن العقل
في مواجهة المادة ، عن الوحدة في مواجهة التصارع ، عن العام في مواجهة
الخاص ، أي بإعتبارها كياناً خارج المجتمع المدني وأعلى منه ، يعبر عن
مجموعة من الأفكار المجردة والنبيلة المرتبطة بالصالح العام ، المتجاوزة
للفئوية الضيقة . ولكي يؤكـدوا فكرة تعالي الدولة عن المجتمع و "
انفصالها" المبدئي عنه إستعاروا من القانون الخاص فكرة " الشخصية المعنوية
" للدولة . الدولة إذن كيان إعتباري له عقل أو منطق معين يوجهه ويتحكم في
تصرفاته ، بحيث يؤدي في النهاية إلى تحقيق نوع من التوازن الديالكتيكي بين
إعتبارات الانتظام واعتبارات التحرك .
ومما تقدم يتضح أن أهم معالم
الدولة الحديثة بمفهومها العلمي ، هو إنفصالها عن المجتمع وعن شخصية
الحاكم واكتسابها الشخصية الاعتبارية أو المعنوية . لذلك يرى بعض الباحثين
المؤيدين لفكرة قيام دولة دينية ، أن الدولة في الشريعة الإسلامية هي دولة
حديثة ذات شخصية اعتبارية . ونمثل لهؤلاء بالدكتور أحمد علي عبد الله الذي
يقول :- " لئن كانت الدولة الإسلامية بمجموع المسلمين فيها مع من في ذمتهم
يسكنون دار الإسلام وتربط بينهم أخوة الإسلام والعهد الذي هو كالخلف عن
الإسلام ، دولة لها أثرها الفعال في حياة الأمم حولها ، والى جانب هذا
وذاك تتمتع بحقوق كثيرة وعادلة ، وتلتزم في مقابلها بواجبات تراعيها
بأخلاقيات سامية لا تعرف الغدر ، وتتحمل فوق ذلك توقيع الجزاء عند التقصير
والاعتداء بروح راضية ، فهي بذلك دولة صالحة للإلزام والالتزام ، وأهل
لوجوب الحقوق المشروعة لها وعليها . إذا كانت الدولة الإسلامية بمثل هذه
الصفة فقد إكتملت فيها عناصر الشخص القانوني كما يرسمها فقهاء القانون
وتوافرت لها أسباب أهلية الوجوب كما يحددها علماء الأصول في الفقه
الإسلامي . فالدولة الإسلامية إذن شخص يتمتع بالشخصية القانونية
الاعتبارية [/b]