أساس القانون الإداري
سعى الفقه والقضاء نحو إيجاد أساس أو فكرة عامة تصلح أن تكون دعامة تقوم عليها مبادئ ونظريات القانون الإداري وتحديد المعيار المميز لموضوعاته عن موضوعات القوانين الأخرى .
وإذا كان القانون الإداري في معناه التقليدي قد نشأ في ظل النظام القضائي المزدوج فإن البحث عن أساس القانون الإداري يساهم بالإضافة إلى بيان الأساس النظري والفني لأحكام ومبادئ القانون الإداري , إلى وضع الأسس الكفيلة بتعيين الاختصاص بين القضاء الإداري والقضاء المدني خاصة وقد فشل المشرع في تحديد معاني أو موضوع المنازعة الإدارية وإعداد قائمة باختصاص القضاء الإداري , لعدم تمكنه من التنبؤ مسبقاً بمختلف المنازعات ذات الطبيعة الإدارية ، كما أن القضاء الإداري لم يعد جهة قضاء استثنائي كما نشاء ابتداءً إنما أصبح نظام قضائي موزاي لنظام القضاء المدني وله أهميته وأصالته .
وعلى ذلك كان لابد من وضع معيار ثابت ومستقر لتحديد أساس القانون الإداري
، وظهر في هذا المجال عدة نظريات أو معايير رغم تعددها لم تعش طويلاً إنما
راح بعضها يغلب على بعض تباعاً واندماج بعضها بالبعض الآخر لسد ما انكشف
فيها من نقص أو قصور .
وسنعرض فيما يلي لأهم هذه المعايير …
المبحث الأول
معيار أعمال السلطة وأعمال الإدارة
يقوم هذا المعيار على أساس
تقسيم أعمال الإدارة إلى صنفين أعمال سلطة Acte d’autorite وهي الأعمال
التي تظهر فيها الإدارة بمظهر السلطة العامة وتتمتع بحق الأمر والنهي وهذا
النوع من الأعمال تحكمه قواعد القانون الإداري ويخضع لاختصاص القضاء الإداري .
وأعمال
الإدارة العادية Actte de gestion وهي الأعمال التي تباشرها الإدارة بذات
الأساليب التي يلجأ إليها الأفراد وفي نفس ظروفهم , وتحكمها قواعد القانون الخاص ويختص بها القضاء العادي لأنها لا تتصف بطابع السلطة .
وقد
سادت هذه النظرية حتى نهاية القرن التاسع عشر وكان من أنصارها الفقيه
لافيرير Laferrlere وبارتلمي Berthelemy ، واعتمد القضاء الفرنسي عليها
فترة من الزمن أساساً وحيداً للقانون الإداري .
إلا أن القضاء الإداري لم يلبث أن هجر هذا المعيار بفعل الانتقادات الموجه إليه ، وكان النقد الأساسي يتمثل في أنه ضيق إلى حد كبير من نطاق القانون الإداري ومن اختصاصات القضاء الإداري ، فطبقاً لهذه النظرية تقتصر أعمال السلطة على القرارات الإدارية والأوامر التي تصدرها سلطات الضبط الإداري لحفظ النظام العام
، وتستبعد من نطاق تطبيقها جميع الأعمال الأخرى من قبيل العقود الإدارية وأعمال الإدارة المادية .
كما
أن هذا المعيار وبالرغم من بساطته ووضوحه صعب التطبيق في الواقع أو ليس من
السهل التمييز بين أعمال السلطة وتصرفات الإدارة العادية نظراً لطبيعته
وتداخل النشاط الإداري .
المبحث الثاني
معيار المرفق العام
ظهر
هذا المعيار وتبلور ابتداءً من الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، وأصبح
الفكرة الأساسية التي اعتمدت عليها أحكام مجلس الدولة الفرنسي ومحكمة
التنازع كأساس للقانون الإداري ومعيار لاختصاص القضاء الإداري ، وكان حكم روتشليد Rotchild الصادر عام 1855 وديكستر Dekester الصادر عام 1861 من الأحكام الأولى في تقرير هذه الفكرة.
إلا
أن حكم بلانكو Blanco الصادر عام 1873 يمثل في نظر الفقه والقضاء حجر
الزاوية في نظرية المرفق العام Theorie de Service Public وتتخلص وقائع
هذا الحكم في انه صدمت عربة صغيرة تتبع مصنع تبغ بوردو طفلة فأوقعتها
وجرحتها , فرفع والد الطفلة النزاع إلى القضاء العادي طالباً التعويض من
الدولة باعتبارها مسؤولة مدنياً عن الخطاء الذي ارتكبه عمال المصنع التابع
لها , إلا أن محكمة التنازع قررت أن الجهة المختصة بالنظر في النزاع هي
القضاء الإداري
وليس القضاء العادي , وقضى بأنه " لا تختص المحاكم العادية أطلاقاً بنظر
الدعاوى المقامة ضد الإدارة بسبب المرافق العامة أياً كان موضوعها , حتى
لو كانت تستهدف قيام القضاء العادي بمجرد الحكم عليها بمبالغ مالية
تعويضاً عن الأضرار الناشئة عن عملياتها دون إلغاء أو تعديل أو تفسير
قرارات الإدارة " .
ومن جانب آخر قرر هذا الحكم قواعد جديدة تحكم
المسؤولية عن الأضرار التي تسببها المرافق العامة فورد " ومن حيث أن
مسؤولية الدولة عن الأضرار التي تسببها للأفراد بفعل الأشخاص الذين
تستخدمهم في المرفق العام لا يمكن أن تحكمها المبادئ التي يقررها التقنين
المدني لتنظيم الروابط بين الفراد بعضهم وبعض ، وأن هذه المسؤولية ليست
عامة ولا مطلقة ، بل لها قواعدها الخاصة التي تتغير تبعاً لحاجات المرفق ,
ولضرورة التوفيق بين حقوق الدولة والحقوق الخاصة " .
وتطبيقاً لهذه النظرية فإن أساس القانون الإداري واختصاص القضاء الإداري ، إنما يتعلق بكل نشاط تديره الدولة أو تهيمن على إدارته ويستهدف تحقيق المصلحة العامة .
، وتستبعد من نطاق تطبيقها جميع الأعمال الأخرى من قبيل العقود الإدارية وأعمال الإدارة المادية .
كما
أن هذا المعيار وبالرغم من بساطته ووضوحه صعب التطبيق في الواقع أو ليس من
السهل التمييز بين أعمال السلطة وتصرفات الإدارة العادية نظراً لطبيعته
وتداخل النشاط الإداري
والمرفق
العام بهذا المعنى هو النشاط الذي تتولاه الدولة أو الأشخاص العامة الأخرى
مباشرة أو تعهد به إلى جهة أخرى تحت إشرافها ومراقبتها وتوجيهها وذلك
لإشباع حاجات ذات نفع عام تحقيقاً للصالح العام . وقد عزز هذا الاتجاه أن
وضع العميد (ديجي) Duguit لأسس نظريته عن المرافق العامة التي كان لها شأن
كبير بين نظريات القانون الإداري حتى باتت تقوم على اعتبار المرفق العام ومقتضيات سيره المبرر الوحيد لوجود نظام قانوني خارج عن المألوف في قواعد القانون الخاص .
وقد
تجاوزت هذه النظرية الانتقادات التي وجهت لمعيار التفرقة بين أعمال السلطة
وأعمال الإدارة العادية ، فشملت جميع نشاطات الإدارة المتصلة مباشرة
بالمرافق العامة التي يحكمها القانون الإداري .
ويختص القضاء الإداري
في نظر المنازعات الناشئة عنها من قبيل القارات والعقود الإدارية والأعمال
المادية سواء أصدرت عن الدولة أو الأشخاص العامة الأخرى التابعة لها , ما
دامت تستهدف من هذه الأعمال إشباع حاجات ذات نفع عام تحقيقاً للصالح العام
.
مع ضرورة الإشارة إلى استثنائين محدودين في هذا المجال يتعلق الأول
بإدارة الدولة أو الأشخاص التابعة لها لأموالها الخاصة فلا تكون في نكون
في هذه الحالة أمام مرفق عام , أما الاستثناء الأخر فيتعلق بعدول الإدارة
عن استعمال وسائل القانون العام واستعمالها قواعد القانون الخاص في إدارة نشاط من نشاطاتها وفي هاتين الحالتين تطبق قواعد القانون الخاص, ويختص القضاء العادي بنظر المنازعات الناشئة عنها .
وقد أيد جانب كبير من فقهاء القانون الإداري هذه النظرية كأساس للقانون الإداري الذي أصبح يسمى " قانون المرافق العامة " وأطلق على أنصارها " مدرسة المرافق العامة " .
ومن أبرز فقهاء هذه المدرسة تيسيه Teissier , ديجي Duguit , وبونار Bonnard وجيز Jeze .